مصر وبلاد الشام

فتح عينيه في القرن السادس الهجري حيث كان مولده سنة 511هـ، رأى أمته تتعرض لأشرس هجمة همجية، من قبل الصليبين كما سموا أنفسهم، وسماهم مؤرخونا الفرنجة، قدموا من أوروبا يغزون بلادنا في موجات تتلوها موجات، كلما مروا على بلد ارتكبوا المجازر وخلفوا الدمار والخراب والرعب، وتمكنوا من احتلال مساحة شاسعة من بلاد الشام وغيرها وكان من أخطر الحوادث التي عرفها نهاية القرن الخامس سقوط بيت المقدس بأيديهم. فلما اشتد عوده وأخذ يقود جيشه في جهاد المحتل، باذلا روحه وكل ما يملك لتحرير بلاد الشام، كان يرى عدوا آخر لا يقل ضررا ولا ينقص خطرا، عدوا أشد شراسة وكرها للأمة، حيث شغل الناس بصراعات العقائدية وأضلهم عن دينهم وسعى في دنياهم فسادا وإفسادا؛ وهؤلاء هم من سماهم حجة الإسلام أبوحامد الغزالي باطنية، وخصص كتابه الشهير «فضائح الباطنية» في الرد عليهم. بعدما توفي والده عماد الدين الذي كان بيته بيت علم وحكم وشجاعة وجهاد، حمل نور الدين زنكي الراية من بعده فكان خير سلف لخير خلف. قال عنه ابن الأثير في تاريخه: «طالعت سير الملوك المتقدمين، فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحرياً للعدل منه». استأنف نور الدين حركة الجهاد التي بدأت قبله، ولكنه أعطاها زخما كبيرا وأضاف إليها دفعة قوية بصلاحه وشجاعته وإخلاصه، وكان منذ البداية مستحضرا رؤيته الواضحة للهدف الذي يريد تحقيقه والمرتكز على أمرين: 1- تحرير بلاد الشام من الصليبيين وطرد الغزاة. 2- القضاء على العدو الباطني وتوحيد الجبهة الداخلية ونشر علوم الكتاب والسنة. لقد حقق نور الدين انتصارات كثيرة ضد الصليبين، ولكنه أدرك أن القضاء نهائيا عليهم لن يتم من دون ضم مصر إلى الشام، ليستفيد من إمكاناتها وقدراتها ومكانتها العظيمة من جهة، وينتزعها من أيدي الفاطميين ويقضي عليهم من جهة أخرى، فانتهز فرصة واتته مستثمرا الصراع الداخلي في الحكم الفاطمي، وأرسل جيشا إلى مصر بقيادة أسد الدين شركوه يرافقه ابن أخته صلاح الدين. نجح نور الدين في ضم مصر إلى مشروع الجهاد والتحرير الإسلامي، وقضى على سلطة الباطنيين فيها الذين ينخرون الجسد من الداخل، لكن إرادة الله سبحانه وتعالى اقتضت أن يلتحق بالرفيق الأعلى قبل أن يحقق هدفه الآخر بطرد الصليبيين من بلاد الشام وإن كان حرر أجزاء كبيرة منها. فأخذ الراية من بعده تلميذه على الدرب ووريثه في مشروع الجهاد والتحرير صلاح الدين الأيوبي، ليستأنف مسيرة طويلة مليئة بالجهاد والعطاء والتضحية، وتوجت بمعركة من معارك التاريخ الخالدة، وهي معركة حطين التي كانت الباب العظيم والمفتاح الرئيس لتحرير بيت المقدس، وبعدما طهر صلاح الدين المسجد الأقصى قام بإحضار منبر نور الدين ونصبه في صدر المسجد. واليوم هاهو التاريخ يعيد نفسه، وتتكرر الظروف في زماننا، مع فارق بسيط أن مصر اليوم هي المؤهلة لقيادة مشروع الأمة، بينما بلاد الشام هي التي تئن تحت وطأة التحالف الطائفي، فسوريا اليوم بيد عصابة مجرمة تقتل وتذبح وترتكب المجازر المهولة وتدمر المدن على رؤوس ساكنيها، ولم يسلم من بطشها طفل ولا امرأة ولا شيخ، في تحالف نجس من فرقة طائفية حاقدة، وكلنا ثقة أن مصر الثورة ستنهض بدورها القيادي والإنساني المنتظر في نصرة الثورة السورية والقضاء على العصابة المجرمة الحاكمة وحلفها الطائفي، واستنقاذ الشعب السوري من الكارثة المحققة، فتكون بذلك ردت الدين الذي عليها.