


عدد المقالات 58
لقد سرنا سوياً في هذه السلسلة التاريخية والفكرية المسماة «صراع المشاريع» برحلة طويلة من الزمن، حيث بدأنا في الحلقة الأولى من نهاية القرن الهجري الثالث إلى أن وقفنا في الحلقة العاشرة عند القرن الثامن الهجري، عندما حرر الملك الناصر محمد بن قلاوون جزيرة (أرواد) آخر معقل للصليبيين فوق الأرض العربية الإسلامية عام 702 هـ. وقراءة التاريخ قراءة تدبر واعتبار لاستخلاص الدروس والعبر من أهم علامات وعي الأمم وأسباب نهوضها، ويكفي لنعرف أهمية العلم بالتاريخ وتدبره أن أعظم كتاب على وجه الأرض وهو كتاب الله سبحانه ثلثه قصص تاريخية للأنبياء مع أقوامهم، ولم يحتل البعد التاريخي هذه المكانة له في القرآن الكريم عبثاً وإنما للاستفادة وأخذ العبرة والعظة لحياتنا المعاصرة ومستقبلنا قال تعالى (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ). والتاريخ بنظرة عميقة يعرفه ابن خلدون بأنه: فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضي من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياساتهم حتى تتم فائدة الاقتداء. وانتقد ابن خلدون من يقرأ التاريخ بسطحية قائلاً (لم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال، وذلك لأنهم لم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، لأنهم لم يفهموا من التاريخ إلا ظاهره، وهو ذلك الذي لا يزيد على أخبار الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى...) وأنهم افتقدوا فقه التاريخ والوعي بعمقه بفكر وتدبر والذي وصفه بأنه (نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة وجدير أن يعد في علومها وخليق). لقد كان فهم ابن خلدون العميق للتاريخ سبباً في نظريته في الحضارة والبداوة والعصبة والعمران واكتشاف علم الاجتماع وأسباب نشوء الدول وسقوطها الذي أهله لتبوء مكانة عظيمة في الفكر الإنساني، يقول المؤرخ البريطاني أرنولد تونبي: ابتكر ابن خلدون وصاغ فلسفة للتاريخ هي بلا شك أعظم ما توصل إليه الفكر البشري في مختلف العصور والأمم. ويعتبر تونبي أهم مؤرخ في القرن العشرين وأعمق باحث في الحضارات بشكل مفصل وشامل وأمضى في دراسة وتأليف موسوعته «دراسة التاريخ» واحداً وأربعين عاماً من عمره فسر بها نشوء الحضارات وقوتها وازدهارها بنظريته الشهيرة «التحدي والاستجابة» والتي يقصد بها أن الأمم أو الحضارات إذا تعرضت إلى صدمة حضارية أو هزيمة قاسية فإنها تفقد توازنها لفترة مؤقتة، ثم تستجيب لهذا التحدي بأحد نوعين من الاستجابة، النوع الأول وهو الاستجابة السلبية للتحدي، وذلك بالنكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسك به تعويضاً عن واقعها المر، ما يؤدي إلى انطوائها على ذاتها وضعفها واضمحلالها، أما النوع الثاني وهو الاستجابة الإيجابية للتحدي من خلال تقبل هذه الصدمة والاعتراف بها ثم العمل من أجل التغلب عليها. وأرجع تونبي أن نمو الحضارة وقوتها يعود لما سماه «الدافع الحيوي» وهو الطاقة الكامنة لدى الفرد والمجتمع التي تنطلق بغرض التحقيق الذاتي. ويفصل ذلك قائلاً: إن الشخصية النامية أو الحضارة الناهضة تسعى إلى أن تصير هي نفسها بيئة نفسها وتحدياً لنفسها ومجال عمل لنفسها، بعبارة أخرى أن مقياس النمو هو التقدم في سبيل التحقيق الذاتي، وذلك عن طريق المبدعين من الأفراد أو بواسطة الفئة القليلة من هؤلاء القادة الملهمين إذ تستجيب لهم الأكثرية عن طريق المحاكاة التلقائية التي تمثل الطريقة الغالبة في عملية الانقياد الاجتماعي. حيث قال: إنه في المجتمعات البدائية تقود هذه المحاكاة إلى حركة ماضوية تنزع للتشدد في تقليد القدماء، بينما في المجتمعات الحضارية النامية هي حركة تقدمية تؤدي إلى محاكاة الطليعة الخلاقة. أما على صعيد سقوط الحضارات فيرى تونبي أنه يعود لثلاثة أسباب: 1. ضعف القوة الخلاقة الموجهة وتحول القيادة إلى سلطة تعسفية. 2. تخلي الأكثرية عن موالاة الأقلية الجديدة المسيطرة وكفها عن محاكاتها، لأنها لا تجدها تعبر عن ذاتها وأحلامها. 3. الانشقاق وضياع الوحدة في كيان المجتمع. والخلاصة: أن دراسة التاريخ وأحداثه المتنوعة، كما عرضنا في سلسلتنا «صراع المشاريع» ليست مجرد مواضيع للتسلية أو بغرض إثارة العداوات والأحقاد الماضية، وإنما هدفنا إلى دراسة التاريخ بوعي دراسة تضيء الكثير من المناطق المظلمة، وتجيب على الكثير من الأسئلة المحيرة وتزيل الاضطراب والغبش في فهم الأحداث والقوى المحيطة بنا، كما أنها تنضج رؤيتنا للمستقبل، لأن الوقوف مع الماضي بعمق ووعي هو جسر أساسي لاستشراف المستقبل. يقول الشاعر: مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عي في الناس انتسابا أو كمغلوب على ذاكرة يشتكي من صلة الماضي انقضابا
في ربيع الأول من سنة 41 هـ تنازل الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما إلى معاوية بن أبي سفيان عن الخلافة, وعلق المؤرخ ابن كثير على هذه الحادثة قائلاً: «وذلك كمال ثلاثين...
في العام الثامن للهجرة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية في قرابة ثلاثة آلاف فارس إلى البلقاء من أرض الشام لمقاتلة جيش يعد يومئذ أقوى جيوش العالم وأمر عليهم زيد بن حارثة، وقال:...
في يوم من الأيام بحدود 350 قبل الميلاد وقبل غروب الشمس كان فيلسوف الهند الكبير «شاناكيا» -وله أسماء أخرى اشتهر بها مثل «فشنوجوتبا» و «كاوتيليا»- يراقب باهتمام مجموعة من الصبية يلعبون؛ فلفت نظره أن أحد...
كان يُعرف بالفتى المُدَلَّل؛ فكان لا يلبس الثوب الواحد ليومين مُتتاليين، وكان له عِطر يُعرف به بسبب نَشْأته في أحضان أم مُترَفة فعاش في يُسر وسعة. اختار ابن الدار الواسعة السير في طريق الإسلام الشاقة،...
في العقد الأخير من القرن التاسع عشر(1890م) كان هناك شاب في العشرين من عمره يعمل لدى شركة «بوفالو فورج» في «بونالو» بنيويورك، وَعُيِّن في قسم آلات تزويد الغاز في مصنع تابع لشركة «بيتسبرج بلايت جلاس»...
جاءت قريش وشكت النبي إلى أبي طالب فكان جوابه عليه السلام لعمه وهم يسمعون: «يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية»، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقالوا:...
كان المشروع الصليبي أطولَ المشاريع المعادية للأمة عُمرا وأكثرَها استنزافا لطاقتها وإرهاقا لها، وقد استمر فترة طويلة من الزمن تعاقبت على حربه دولٌ إسلامية كثيرة حتى قدَّر الله سبحانه أن تكون نهاية وجودهم كإمارات وحكام...
تُعتبر مرحلة الأيوبيين ما بعد «صلاح الدين» من أهم مراحل الصراع بين المشروع الإسلامي والمشروع الصليبي الذي أبى أن يَفتُر أو يستسلم؛ بل شنَّ أربع حملات متتاليةً وشرسة. والحقيقة أن «صلاح الدين الأيوبي» بما تميز...
بوفاة الملك الناصر «صلاح الدين الأيوبي» رحمه الله عام589هـ يكون قد مضى على بدء ملحمة صراع المشاريع مرحلة زمنية كبيرة نسبياً تقارب الثلاثة قرون، وذلك إذا قدَّرنا بداية الصراع بظهور أول دولة للمشروع الباطني وهي...
يستمرصراع المشاريع ليتجاوز القرون من الزمن، والأمة من حرب إلى حرب، ومن صراع إلى صراع، تسطر ملحمة حضارية حافلة بالانتصارات والهزائم والأفراح والآلام توجتها البطولات التاريخية التي قادتها إلى نصر حضاري قبل أن يكون عسكريا...
قال المؤرخ ابن الأثير: «طالعتُ سير الملوك المتقدمين فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز أحسن سيرة ولا أكثر تحريا للعدل منه، وهو أول من ابتنى دارا للعدل وكان يجلس فيها أربع مرات أسبوعيا...
كان للمشروع العظيم الذي أسّسه الوزير الفذُّ نظامُ الملك نتائجُ كبيرة وجبارة؛ أهمُّها الحرص في المناصب الهامة والقيادية على استعمال الأكفاء وأصحاب الديانة, ومن يحمل همَّ قضايا الأمة. وكثمرة لهذا المشروع فقد سطع نجمُ العديد...