


عدد المقالات 58
كان يُعرف بالفتى المُدَلَّل؛ فكان لا يلبس الثوب الواحد ليومين مُتتاليين، وكان له عِطر يُعرف به بسبب نَشْأته في أحضان أم مُترَفة فعاش في يُسر وسعة. اختار ابن الدار الواسعة السير في طريق الإسلام الشاقة، وبايع النبي عليه السلام وهو يعلم ما ينتظره من عقبات، وما في طريقه من صعوبات؛ وبقدر ما بدأ يتخلى عن دلاله، بقدر ما كان يرتقي في عطائه ويسمو في إيمانه. وكان عطاؤه وتضحيته في مكة حدثا شغل الجميع وأقلق غطرسة قريش، وبإسلامه أَحرج أمه الثرية التي بعد محاولات فاشلة لِثنْيِه عن طريقه، قررت سجنه فضحى ودفع حريته ثمنا لثباته. ولما ضاقت مكة به وبأمثاله، انتدبه النبي عليه السلام من بين أصحابه فأرسله إلى المدينة لينشر فيها الدعوة الجديدة، فحقق مصعب بن عمير بتفانيه وتضحيته نجاحات باهرة، حيث أسلم على يديه وجهاء وكبراء الأنصار الذين قدَّموا الكثير للدعوة الإسلامية. ولما قدم النبي مهاجرا إلى المدينة كان على رأس الجموع التي استقبلته، وفي خلوة بينهما سأله النبي عن المهمة التي أرسله من أجلها؛ فكان جواب مصعب: ما عليَّ يا رسول الله؛ «ما ثمة دار من دور المدينة إلا دخلها الإسلام». فهل فوق هذا النجاح نجاح؟ وفي أحد الأيام وبينما كان النبي مستندا إلى نخلة يحدث أصحابه وهم مقبلون ينظرون إليه، لاحظ عليه الصلاة والسلام أن الناس يصرفون أنظارهم خلفه ثم يطرقون بأبصارهم إلى الأرض عندها، فالتفت عليه السلام إلى الوراء فرأى مصعب بن عمير قادما نحوهم وليس عليه من الثياب سوى جلد شاة إذا مشى كشفت الريح بعض أطراف فخذيه، وحينها تذكر النبي حال مصعب بالأمس القريب وما كانت عليه من الترف فتحدرت عبرات من عينيه الشريفتين على وجنتيه وقال: انظروا إلى هذا والله لقد رأيته مرة بمكة وهو خير شبابها وها أنتم ترون ما فعل به الإسلام. وفي معركة بدر الكبرى خص النبي عليه السلام مصعب بن عمير باللواء، فأبلى أحسن البلاء، وأعطاه لواء المسلمين أيضا في معركة أحد ثم لما حصلت الانتكاسة وتحول نصر المسلمين إلى هزيمة؛ وفي ظل هذه الأجواء النفسية الصعبة طرق سمع مصعب إشاعة انتشرت ويرددها الجميع مُفادها أن النبي عليه السلام قد قُتل، فرد عليها مصعب بقوله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)، وهذا كلام نزل به الوحي بعد ذلك وأصبح قرآنا يُتلى، ثم قاتل مصعب حتى قتل شهيدا سعيدا. وفيه وفي أمثاله نزل قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا). إن مصعب بن عمير لم ينظر إلى النجاح بمعناه الظاهري البسيط الذي يفهمه غالبية الناس بأنه الوصول إلى المنصب أو جمع الأموال على الأموال في البنوك أو الحصول على الشهادات العلمية العليا أو الجماهيرية والشعبية بين الناس أو ما شابهها؛ إنه مفهوم يختلف كليا فهو ينظر إلى النجاح باعتباره العطاء والتضحية في سبيل هدفٍ سامٍ يُؤمن به ويضحي من أجله. إن النجاح بالمفهوم الأول ليس معيبا خصوصا إذا تحقق بالطرق الصحيحة، ولكننا ونحن في ظل حياة مادية قاسية تقوم على الصراع والمصالح حتى بين الإخوة والأقارب ما أحوجنا إلى نفض الغبار عن معنى النجاح بالمعنى الآخر، ونشيدهُ معلما بارزا للأجيال من بعدنا ونتدارسه بيننا ونسعى لتطبيقه ما استطعنا لنجعل للحياة معنى أسمى وأرقى من معناها المادي البحت ونبث فيها روح القيم ونُحيي فيها معاني الإنسانية. إن هذا المعنى من النجاح يفهمه العظماء حتى من غير المسلمين؛ فهذا «مارتر لوثر» عاش من أجل حُلمه في مجتمع ينعم بالحرية والمساواة بين السود والبيض، وبذل كل ما يستطيع في حربه ضد العنصرية، ولقي شتى أنواع الأذى من أجل تحقيق حُلمه حتى ضحى بحياته ولم يجن ثمرة تضحيته بنفسه وإنما قطفتها الأجيال من بعده حريةً ومساواةً. إن النجاح بمعنى العطاء والتضحية هو طريق العظماء الذين يتحولون إلى مشاعل من نور تضيء الطريق للسائرين من بعدهم وفي مقدمتهم سيد العظماء جميعا المبعوث بالهدى والنور والرحمة الذي كان ينام على الحصير ومات وذرعه مرهونة عند يهودي في طعام لأهله. إن الحياة في ظل القيم والأهداف السامية هي الجديرة بأن يتعايش الناس فيها حقيقة، والعمل على تجسيدها واقعا. قال الشاعر أحمد شوقي: قف دون رأيك مجاهدا إن الحياة عقيدة وجهاد
في ربيع الأول من سنة 41 هـ تنازل الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما إلى معاوية بن أبي سفيان عن الخلافة, وعلق المؤرخ ابن كثير على هذه الحادثة قائلاً: «وذلك كمال ثلاثين...
في العام الثامن للهجرة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية في قرابة ثلاثة آلاف فارس إلى البلقاء من أرض الشام لمقاتلة جيش يعد يومئذ أقوى جيوش العالم وأمر عليهم زيد بن حارثة، وقال:...
في يوم من الأيام بحدود 350 قبل الميلاد وقبل غروب الشمس كان فيلسوف الهند الكبير «شاناكيا» -وله أسماء أخرى اشتهر بها مثل «فشنوجوتبا» و «كاوتيليا»- يراقب باهتمام مجموعة من الصبية يلعبون؛ فلفت نظره أن أحد...
في العقد الأخير من القرن التاسع عشر(1890م) كان هناك شاب في العشرين من عمره يعمل لدى شركة «بوفالو فورج» في «بونالو» بنيويورك، وَعُيِّن في قسم آلات تزويد الغاز في مصنع تابع لشركة «بيتسبرج بلايت جلاس»...
جاءت قريش وشكت النبي إلى أبي طالب فكان جوابه عليه السلام لعمه وهم يسمعون: «يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية»، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقالوا:...
لقد سرنا سوياً في هذه السلسلة التاريخية والفكرية المسماة «صراع المشاريع» برحلة طويلة من الزمن، حيث بدأنا في الحلقة الأولى من نهاية القرن الهجري الثالث إلى أن وقفنا في الحلقة العاشرة عند القرن الثامن الهجري،...
كان المشروع الصليبي أطولَ المشاريع المعادية للأمة عُمرا وأكثرَها استنزافا لطاقتها وإرهاقا لها، وقد استمر فترة طويلة من الزمن تعاقبت على حربه دولٌ إسلامية كثيرة حتى قدَّر الله سبحانه أن تكون نهاية وجودهم كإمارات وحكام...
تُعتبر مرحلة الأيوبيين ما بعد «صلاح الدين» من أهم مراحل الصراع بين المشروع الإسلامي والمشروع الصليبي الذي أبى أن يَفتُر أو يستسلم؛ بل شنَّ أربع حملات متتاليةً وشرسة. والحقيقة أن «صلاح الدين الأيوبي» بما تميز...
بوفاة الملك الناصر «صلاح الدين الأيوبي» رحمه الله عام589هـ يكون قد مضى على بدء ملحمة صراع المشاريع مرحلة زمنية كبيرة نسبياً تقارب الثلاثة قرون، وذلك إذا قدَّرنا بداية الصراع بظهور أول دولة للمشروع الباطني وهي...
يستمرصراع المشاريع ليتجاوز القرون من الزمن، والأمة من حرب إلى حرب، ومن صراع إلى صراع، تسطر ملحمة حضارية حافلة بالانتصارات والهزائم والأفراح والآلام توجتها البطولات التاريخية التي قادتها إلى نصر حضاري قبل أن يكون عسكريا...
قال المؤرخ ابن الأثير: «طالعتُ سير الملوك المتقدمين فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز أحسن سيرة ولا أكثر تحريا للعدل منه، وهو أول من ابتنى دارا للعدل وكان يجلس فيها أربع مرات أسبوعيا...
كان للمشروع العظيم الذي أسّسه الوزير الفذُّ نظامُ الملك نتائجُ كبيرة وجبارة؛ أهمُّها الحرص في المناصب الهامة والقيادية على استعمال الأكفاء وأصحاب الديانة, ومن يحمل همَّ قضايا الأمة. وكثمرة لهذا المشروع فقد سطع نجمُ العديد...