


عدد المقالات 336
بعد أن أشرنا إلى التخوفات المطروحة في الشارع المصري نقف الآن مع المحيط الأوسع وهو يضع التجربة المصرية الجديدة تحت المجهر، هذا المحيط المنقسم هو الآخر في مواقفه وتوقعاته بحسب الأيديولوجيات والمصالح ومخزون الذاكرة المشوش عن التجارب الإسلامية المعاصرة. يرى الإسلاميون في العالم أن مصر تشكل اليوم الفرصة الأكبر والأهم لتقديم النموذج الأفضل عن الحل الإسلامي، بعد أن قدمت التجارب الأخرى في أفغانستان والصومال والسودان نماذج غير مشجعة وغير مقنعة حتى للإسلاميين أنفسهم مما شكل نكسة نفسية وسياسية خطيرة، والأخطر من هذا أن يلصق هذا الإخفاق بالإسلام نفسه، ذلك لأن هذه التجارب رفعت شعار «الإسلام هو الحل» وكان الأولى، والأنسب أن يكون شعارهم «نحن الحل»، فإذا فشلوا ينسب الفشل لهم وليس للإسلام، والحل يعتمد على الإجراءات والأداء البشري، وهو قابل للنجاح والفشل بخلاف الإسلام، فالإسلام هو الحق والإسلاميون هم الحل وهذه مسؤوليتهم. بهذا الصدد يحسن بالإسلاميين أن يبتعدوا عن إضفاء المصطلحات المقدسة على تجاربهم العملية، لأن الناس سيحاسبونهم بأدق المعايير ولن يغفروا لهم الزلة التي يمكن أن يغفروها لغيرهم «إن البياض قليل الحمل للدنس»، ولقد كان السلف الصالح أكثر ورعاً، فقالوا: هذا فقه أبي حنيفة وذاك فقه مالك، لا كما نقول نحن اليوم: هذا «فقه السنة» وذلك «صفة صلاة النبي» وهذا «البنك الإسلامي» وذلك «المستشفى الإسلامي»، ولا نشك هنا في النوايا الطيبة والتي تدور في فلك الاعتزاز بالاسم الإسلامي والرغبة في إقحام هذا الاسم في كل شؤون الحياة رداً على أولئك الذين حاولوا حشر الإسلام في حدود المسجد ومحاكم الأحوال الشخصية. بعض الإسلاميين لا ينتظرون من مصر أن تقدم النموذج الناجح بقدر ما يرجون منها تقديم العون والنصرة لقضاياهم العادلة كما في فلسطين وسوريا، وهذا بحد ذاته قد يكون مصدر قلق لدى شرائح واسعة من المصريين الذين يأملون من حكومتهم الجديدة أن تولي كل اهتمامها لحل مشاكل المواطن المصري الذي تحمل أكثر من طاقته عبر العهود الماضية ومخلفاتها الثقيلة، وهنا لا بد أن يكون الرئيس الجديد معبراً بصدق عن إرادة المصريين أنفسهم فهو اليوم مؤتمن على هذه الإرادة وممثل لها، وربما يتطلب هذا عملاً مزدوجاً يبدأ بطمأنة الشارع المصري أن الحكومة الجديدة لن تغامر بمصالحه ولقمة عيشه، وينتهي بعمل دؤوب من قبل الطبقة الواعية والمثقفة أن مصلحة مصر لا تنفصل عن مصالح الأمة، والتكافؤ بالهموم من شأنه أن يفتح مجالات أوسع للتعاون والتكافؤ في الإمكانيات والموارد. هناك في الطرف الآخر يقف المتربصون بالمشروع الإسلامي وتجربته الوليدة، وهذا طرف متعدد الأطياف يبدأ من الغرب وقياداته المؤدلجة والمدعومة من اللوبيات اليهودية الضاغطة والتي تختزن في ذاكرتها صفحات غير مريحة من أيام الحروب الصليبية إلى عبدالقادر الجزائري وعمر المختار، وهي اليوم لا تستطيع أن تتخلص من هذه العقود التاريخية والتي لا زالت تصوغ الكثير من سياساتها العدوانية تجاه قضايانا، إلى بعض الأنظمة العربية والتي لا زالت ترى في الطروحات الإسلامية تهديداً جدياً لها ولامتيازاتها، خاصة بعد ما شهده العالم من قوة الخطاب الديني وتأثيره في الجماهير حتى أصبح يوم الجمعة هو المحور الزمني المتجدد لكل الثورات مثلما غدا المسجد المحور المكاني لها. أما الغرب فإن التجربة التركية تمثل خارطة الطريق الأنجع في تعامل الإسلاميين مع هذا الملف، حيث عبرت هذه التجربة عن رغبة صادقة في تغيير قواعد الاشتباك مع الغرب بثقافة المشاركة والمصالح المتبادلة، ولقد نجحت حكومة «العدالة والتنمية» أن تقنع الغرب بأنها الأقدر على تحقيق هذه المصالح من الحكومات العلمانية التي ربما تلتقي مع الغرب في علمانيته لكنها تبتعد عنه بقوميتها المنغلقة، فكانت علمانيتها أشبه بعلمانية صدام حسين وجمال عبدالناصر. إن الإسلاميين اليوم عليهم أن يقدموا أنفسهم كشركاء ومنافسين شرفاء في صناعة الخير لهذه الإنسانية المتعبة، وليتذكر الإسلاميون أن رسالتهم الأولى هي الرحمة «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» وهذا هو الأصل في التعامل مع العالمين كل العالمين، وكل ما سواه إنما هو استثناء تستدعيه الضرورة وقواعد الاشتباك، وربما سيفاجؤون بمدى الترحيب الذي تقابلهم به هذه الشعوب، وربما تكون هذه الخطوة هي الأداة التي نتمكن بها من محاصرة اللوبيات الضاغطة داخل المجتمعات الغربية والتي لا يمكن أن تتعامل معنا إلا وفق ثقافة الكراهية وسوء الظن، خاصة بعد اقتران الفوز باسم إسلامي صريح، وهذا سيحفز هذه اللوبيات لإفشال التجربة وتبديد شحنة المعنويات الإسلامية المتصاعدة بعد فشل التجارب القومية والعلمانية. أما الحكومات العربية فإنه بعد نجاح التجربة الإسلامية لن يكون أمامها إلا محاكاة هذه التجربة، حيث إن هذه الحكومات لا تحمل عداء مؤدلجاً للإسلام، بل الكثير منها يمتلك تديناً فطرياً طيباً وصادقاً، فعلينا أن نتحمل شيئاً من توجساتهم وتخوفاتهم إلى حين إقناعهم أن بقاءهم على سدة الحكم قد يكون مرهوناً باحترام عقيدة المجتمع وخياراته المنبثقة من تقويم دقيق للتجربة ونقيضها على أرض الواقع، خاصة أن شعوبنا لم تتعلم بعد ثقافة الحق السياسي في المشاركة وتداول السلطة، وإنما يكفيها تحقيق مصالحها الحياتية التقليدية. هناك طرف ثالث قد يكون أشد ضبابية وتعقيداً والذي يضم في مفاصله حزمة غير مريحة من عقد التاريخ وثقافة الثأر وشهوة التمدد والاستئثار، إنه مشروع الإمبراطورية الإيرانية الحالمة، حيث ستتعامل إيران مع هذا الملف بطريقة مختلفة تماماً عن الآخرين، وهي الطريقة المركبة والمعقدة والتي سيكون لها أكثر من وجه، ففي الوقت الذي يشعر فيه الولي الفقيه أن البساط قد سحب منه تماماً في مصر وأغلب الشمال الإفريقي فإنه سيتعامل مع هذه الثورات باعتبارها امتداداً له ولتجربته المتقدمة! وسيعمل على نصب الجسور الدبلوماسية مع هذه الثورات للوصول إلى الشارع المنهك والمنهمك بهمومه اليومية، وربما سيجد له أعواناً من بعض المثقفين الغارقين في حلم «الوحدة الإسلامية». إن الحلم الإيراني في إحياء «الدولة الفاطمية» في الشمال الإفريقي والذي يعتبر نهاية المطاف بعد الهلال أو «المنجل الشيعي» في الشام والعراق ستكون له تداعياته الثقيلة في المنطقة وعلى التجربة الإسلامية بالذات. لقد رأينا بأم أعيننا كيف ترفع «الجمهورية الإسلامية» شعار المقاومة، وكيف تعمل هي على محاصرة المقاومة العراقية ومطاردتها وتشريد رموزها في ظل الاحتلال الأميركي وبعده، وقد رأينا أيضاً كيف تعقد إيران «مؤتمرات التقريب» وفي الوقت ذاته تقوم مليشياتها بحرق مساجد السنة في بغداد، وقد رأينا أيضاً كيف تقدم إيران ما يشبه الرشاوى السياسية للمقاومة الفلسطينية وفي الوقت ذاته يتم تشريد عشرات الآلاف من الفلسطينيين المقيمين في العراق منذ عشرات السنين! أما علاقة إيران بالإخوان المسلمين فهو ملف في غاية الغرابة، فإيران هي التي عملت بكل وسائلها لإفشال تجربة الإخوان العراقيين ومطاردة رموزهم «عدنان الدليمي، وطارق الهاشمي نموذجاً» كما فعلت في السابق وتفعل اليوم مع الإخوان السوريين في دعمها الصريح والمباشر لحافظ الأسد وسلالته الحاكمة، لكن أجهزة الدعاية الإيرانية كانت أقوى من هذه الوقائع، حيث تمكنت من إقناع الإخوان في مصر بالتزام جانب الصمت، ثم زاد الطين بلة بتصريحات القادة الإخوان باستعدادهم للقتال إلى جانب حزب الله! مما سبب حرجاً كبيراً للإخوان العراقيين وأفقدهم الكثير من مصداقيتهم وشعبيتهم. إن إيران لن تعمل على مواجهة صريحة مع التجربة الوليدة في مصر والشمال الإفريقي، لكنها ستعمل على خلق البؤر الموالية لها داخل هذه المجتمعات، وهذا سهل جداً في ظل الثقافة السائدة عند عموم الإسلاميين هناك، بعدها ستتحرك هذه البؤر وفق سياسة مرسومة بدقة كما حصل بالفعل مع جماعة الحوثيين في اليمن. إن مصر اليوم غير مصر الأمس، كما أن الإخوان اليوم غيرهم بالأمس، إن مصر اليوم هي الأقدر على صناعة النموذج الناجح للمشروع الإسلامي والذي سيسهم بملء الفراغ الذي تركته التجارب الفاشلة والمرتبكة، وهي الأقدر كذلك على إحداث حالة من التوازن والتكافؤ تضمن قدراً مريحاً من الاستقرار في المنطقة، ومن المناسب هنا أن تستفيد التجربة المصرية من تجارب الاشتباك المر في الطرف العربي الآسيوي في البحرين والعراق وسوريا ولبنان.
هناك من يردد سؤالاً آخر مؤدّاه، ماذا نفعل إذا وجدنا في البخاري ما يعارض القرآن الكريم، أو يعارض العقل؟ وهذا السؤال بدأ يتردد مع هذه الموجة كجزء من حملة التشويه ومحاولة النيل من مكانة البخاري...
المسألة ليست مسألة تقديس للبخاري، ولو كانت المسألة كذلك لاتجه الناس إلى موطّأ الإمام مالك إمام دار الهجرة، أو مسند ابن حنبل إمام أهل السنّة، بل لقدّسوا مرويّات البخاري نفسه في كتبه الأخرى، فالمسألة عند...
إن هذا الاضطراب والتخبّط لدى هؤلاء يكشف أيضاً عن جهل عريض في أصول هذه العلوم ومبادئها الأولية، ولذلك لا ترى هذا الطعن إلا منهم ومن أمثالهم، ممن لا علم لهم بالسنّة وعلومها. إن علماء السنّة...
يتعرض صحيح البخاري هذه الأيام لحملة من التشكيك وإثارة الشبهات، مع حالة من الغموض بالنسبة لدوافعها وغاياتها، والعلاقات التي تجمع بين أصحابها، الذين كأنهم تفرّغوا اليوم أو فُرّغوا لهذه المهمة. هؤلاء بالعموم لم يُعرف عنهم...
لست أهوّن أبداً من مشروعية الغضب في مثل هذه الصدمات، بل أعتبر هذا دليلاً على حياة الأمة واعتزازها بهويتها وبذاتها، وبالعنوان الكبير الذي يجمعها، رغم محاولات تغييبها وتجزئتها، فحينما أرى شاباً عربياً أو تركياً أو...
قبل ثلاثين سنة، استبشر التيار الإسلامي بالانقلاب الذي قاده الرئيس عمر حسن البشير، وتصاعدت الآمال بالنموذج المرتقب للحكم الإسلامي المعاصر، وصار الناس يتداولون الأخبار والقصص عن زهد الرئيس البشير وتواضعه وحكمته، حتى سمعت من أحد...
بقرار من وزارة التعليم في دولة قطر، تشكلت لجنة من الكفاءات العالية لمراجعة وثيقة المعايير المتعلقة بمناهج التربية الإسلامية. وقد جاء القرار بحد ذاته ليعكس رؤية عميقة وواعدة يمكن تلخيصها في الآتي: أولاً: الاهتمام الخاص...
إن الحكم الوراثي السلالي كان جزءاً من ثقافة العرب عموماً، فإذا مات شيخ القبيلة ورثه ابنه، فإن لم يتهيّأ كان أقرب الناس إليه، ودول العالم المجاور للجزيرة -على الأقل- لم تكن تعرف غير هذا، وحينما...
من الغريب جداً أن «المتنورين» بروح العصر وقيمه وثقافته، يجعلون معيار الحكم على تلك المرحلة معياراً مستنداً بالأساس إلى روح «القداسة» أو قداسة «الروح»، فمرة يحدّثونك عن جريمة الخروج على الإمام علي، بمحاكمة أحادية الجانب،...
التاريخ بكل تأكيد لا تصنعه الملائكة، وإنما هو صناعة بشرية بأحداثه ومواقفه ورواياته وتدويناته وتحليلاته واستنتاجاته ومصادره، إلا ما ورد منه بآية قرآنية أو حديث صحيح. هذه المقدمة -التي ينبغي ألا نختلف فيها- تفتح باباً...
تستغل الباطنية اليوم حالة الضعف العام الذي تمر به الأمة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وما يصاحبها من تفكك واضطراب في المنظومة القيمية والعقدية الجامعة، وتراجع مستويات التعليم الديني، وعجز المؤسسات الشرعية والجماعات الإسلامية عن مواجهة التحديات...
الباطنية مذاهب مختلفة، يجمعها اعتقاد باطن للقرآن يخالف ظاهره، وأن هذا الباطن هو مراد الله تعالى، والمقصد من هذا إنما هو تحريف العقيدة وإبطال الشريعة، وإشاعة الشك والفوضى، وتبديل الأحكام الواضحة بمفاهيم عائمة لا تحق...