عدد المقالات 336
هناك من يردد سؤالاً آخر مؤدّاه، ماذا نفعل إذا وجدنا في البخاري ما يعارض القرآن الكريم، أو يعارض العقل؟ وهذا السؤال بدأ يتردد مع هذه الموجة كجزء من حملة التشويه ومحاولة النيل من مكانة البخاري وصحيحه، بل النيل من السنّة النبوية كلها، باعتبار أن صحيح البخاري هو أصحّ كتب السنّة، فالتشكيك به تشكيك بما سواه بطريق الأولى، ثم هو اتهام لكل علماء الأمة المتفقين على صحة الصحيح، أنهم ما كانوا يفهمون القرآن الكريم، ولا يفهمون البديهيات العقلية، وكأنهم ساروا صمّاً وعمياناً وراء البخاري، ومن المفارقات الغريبة هنا أن الأمة وهي تعيش اليوم أسوأ محطاتها التاريخية جهلاً وتخبطاً وتخلفاً، يظهر فيها من يتطاول على الأمة في عصورها الذهبية التي كانت فيها سيّدة العالم قوّة وعلماً وحضارة! لقد فات هؤلاء أن علاقة السنّة بالقرآن وعلاقتها بالعقل من أشهر المباحث العلمية في تراثنا الإسلامي الأصيل، فهذا الإمام ابن الجوزي يضع قاعدته الذهبيّة: «كل حديث رأيته يخالف المعقول أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع»، وهنا يأتي الإمام زُفَر تلميذ أبي حنيفة ليفرّق تفريقاً دقيقاً بين العقل وبين مجرد الرأي، فيقول: «إنما نأخذ بالرأي ما لم يجئ الأثر، فإذا جاء الأثر تركنا الرأي وأخذنا بالأثر»، وهذا الإمام الغزالي -وهو من هو في المدرسة العقلية- يقول بالمعنى نفسه: «القياس على خلاف النصّ باطل قطعاً»، ثم يأتي شيخ الإسلام ابن تيمية ليبسط القول في كل ذلك بكتابه العظيم «درء تعارض العقل والنقل». لقد عرف المسلمون هذه المباحث منذ الصدر الأول، فها هو البخاري نفسه يؤصّل لذلك، ولنقرأ هذه الرواية في صحيحه عن مسروق قال: قلت لعائشة -رضي الله عنها-: يا أمّتاه، هل رأى محمد ربّه؟ فقالت: لقد قفّ شعري ممّا قلت، أين أنت من ثلاث من حدّثكنّ بها فقد كذب، من حدّثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار»، ومن حدّثك أنه يعلم ما في غدٍ فقد كذب، ثم قرأت: «وما تدري نفس ماذا تكسب غداً»، ومن حدّثك أنه كتم فقد كذب، ثم قرأت: «يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك»، فانظر إلى هذه المنهجية الدقيقة في محاكمة الرواية إذا ناقضت القرآن، ثم يأتي هؤلاء اليوم ليوهموا البسطاء أنهم قد تنبّهوا لقضية خطيرة لم يتنبّه لها الأوائل! أما أولئك الذين يرفعون شعار الاحتكام إلى القرآن فقط، ومن ثم هم يرفضون البخاري والسنّة النبوية من أساسها، فهؤلاء يناقضون القرآن قبل السنّة، فالقرآن هو الذي ألزمنا بطاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتأسي به، فقال: «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول»، وقال: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة»، ثم من الناحية العملية، كيف يمتثل هؤلاء لقول ربهم: «أقيموا الصلاة»، والقرآن لم يفصّل لنا أحكام الصلاة ولا أركانها ولا شروطها؟ وهكذا قُل في أغلب العبادات والأحكام العملية. من هنا ندرك أن استهداف السنّة إنما يقصد به استهداف الإسلام كله، واستهداف هوية الأمة وثوابتها والأواصر التي تجمعها، وهذا لا يعني سدّ باب البحث والنقد العلمي بأصوله وضوابطه، فبين النهجين والمقصدين بعد ما بين المشرقين والمغربين.
المسألة ليست مسألة تقديس للبخاري، ولو كانت المسألة كذلك لاتجه الناس إلى موطّأ الإمام مالك إمام دار الهجرة، أو مسند ابن حنبل إمام أهل السنّة، بل لقدّسوا مرويّات البخاري نفسه في كتبه الأخرى، فالمسألة عند...
إن هذا الاضطراب والتخبّط لدى هؤلاء يكشف أيضاً عن جهل عريض في أصول هذه العلوم ومبادئها الأولية، ولذلك لا ترى هذا الطعن إلا منهم ومن أمثالهم، ممن لا علم لهم بالسنّة وعلومها. إن علماء السنّة...
يتعرض صحيح البخاري هذه الأيام لحملة من التشكيك وإثارة الشبهات، مع حالة من الغموض بالنسبة لدوافعها وغاياتها، والعلاقات التي تجمع بين أصحابها، الذين كأنهم تفرّغوا اليوم أو فُرّغوا لهذه المهمة. هؤلاء بالعموم لم يُعرف عنهم...
لست أهوّن أبداً من مشروعية الغضب في مثل هذه الصدمات، بل أعتبر هذا دليلاً على حياة الأمة واعتزازها بهويتها وبذاتها، وبالعنوان الكبير الذي يجمعها، رغم محاولات تغييبها وتجزئتها، فحينما أرى شاباً عربياً أو تركياً أو...
قبل ثلاثين سنة، استبشر التيار الإسلامي بالانقلاب الذي قاده الرئيس عمر حسن البشير، وتصاعدت الآمال بالنموذج المرتقب للحكم الإسلامي المعاصر، وصار الناس يتداولون الأخبار والقصص عن زهد الرئيس البشير وتواضعه وحكمته، حتى سمعت من أحد...
بقرار من وزارة التعليم في دولة قطر، تشكلت لجنة من الكفاءات العالية لمراجعة وثيقة المعايير المتعلقة بمناهج التربية الإسلامية. وقد جاء القرار بحد ذاته ليعكس رؤية عميقة وواعدة يمكن تلخيصها في الآتي: أولاً: الاهتمام الخاص...
إن الحكم الوراثي السلالي كان جزءاً من ثقافة العرب عموماً، فإذا مات شيخ القبيلة ورثه ابنه، فإن لم يتهيّأ كان أقرب الناس إليه، ودول العالم المجاور للجزيرة -على الأقل- لم تكن تعرف غير هذا، وحينما...
من الغريب جداً أن «المتنورين» بروح العصر وقيمه وثقافته، يجعلون معيار الحكم على تلك المرحلة معياراً مستنداً بالأساس إلى روح «القداسة» أو قداسة «الروح»، فمرة يحدّثونك عن جريمة الخروج على الإمام علي، بمحاكمة أحادية الجانب،...
التاريخ بكل تأكيد لا تصنعه الملائكة، وإنما هو صناعة بشرية بأحداثه ومواقفه ورواياته وتدويناته وتحليلاته واستنتاجاته ومصادره، إلا ما ورد منه بآية قرآنية أو حديث صحيح. هذه المقدمة -التي ينبغي ألا نختلف فيها- تفتح باباً...
تستغل الباطنية اليوم حالة الضعف العام الذي تمر به الأمة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وما يصاحبها من تفكك واضطراب في المنظومة القيمية والعقدية الجامعة، وتراجع مستويات التعليم الديني، وعجز المؤسسات الشرعية والجماعات الإسلامية عن مواجهة التحديات...
الباطنية مذاهب مختلفة، يجمعها اعتقاد باطن للقرآن يخالف ظاهره، وأن هذا الباطن هو مراد الله تعالى، والمقصد من هذا إنما هو تحريف العقيدة وإبطال الشريعة، وإشاعة الشك والفوضى، وتبديل الأحكام الواضحة بمفاهيم عائمة لا تحق...
الحقيقة أن العلماء لم يختلفوا في القطعيات أو البديهيات، لكنها أزمة الحوار التي حوّلت الخلاف في هذه المسألة وغيرها من دائرة الظنّيات إلى دائرة القطعيات، ومن دائرة الفرعيات إلى دائرة الكليات، وهي أزمة تنقل الحوار...