


عدد المقالات 336
إن هذا الاضطراب والتخبّط لدى هؤلاء يكشف أيضاً عن جهل عريض في أصول هذه العلوم ومبادئها الأولية، ولذلك لا ترى هذا الطعن إلا منهم ومن أمثالهم، ممن لا علم لهم بالسنّة وعلومها. إن علماء السنّة قد أصّلوا أصولاً وقعّدوا قواعد في النقد الشامل والدقيق، بما لا مثيل له في أية أمة من الأمم، ويكفي هنا التذكير بعلم «الجرح والتعديل» الذي ضبط معايير التوثيق والتضعيف، وبحث في كل الرواة بأسمائهم وأنسابهم وصفاتهم ومستوياتهم، دون أن يستثني منهم أحداً مهما كان، ثم لم يكتفوا بذلك بل راحوا ينقدون النصّ نفسه بمسالك علمية دقيقة، منها البحث في مراتب الدلالة، والبحث في قواعد التعارض والترجيح، والبحث في مشكل الحديث، وغير ذلك. ولتقريب الصورة لغير المختصين، أذكر أن شيخنا المحقق صبحي السامرائي -رحمه الله- قد اقترح عليّ وعلى صديقي د. عمر عبدالعزيز أن نعمل على تحقيق وتخريج رسالة من رسائل ابن أبي الدنيا -رحمه الله- وكان ذلك سنة 1984، وكانت الرسالة بعنوان «حسن الظنّ بالله» وهي رسالة صغيرة، لكننا تعلمنا منها الكثير، والأهم أننا تعلمنا الأدب مع هؤلاء العلماء، حيث لمسنا بأيدينا الجهد الاستثنائي الذي لا يمكن أن يقدّره مقدّر أو يتخيله متخيّل، وعلى سبيل المثال، لو افترضنا أن معدّل السند في كل حديث خمسة رواة، وأن مجموع الأحاديث فيها 100 حديث فقط، فهذا يعني أن الرسالة هذه ستضم 500 راوٍ، وبحذف المكرر تكون مهمتنا الأولى البحث في 300 راوٍ، وتمييز كل واحد منهم، والتأكّد أن هذا الاسم هو المقصود، وذلك بمعرفة ولادته ونشأته ورحلاته ووفاته وشيوخه وتلامذته... إلخ، لأنك قد تجد مائة راوٍ يشتركون في اسم واحد، ثم ندقق فيما قاله العلماء عنهم واحداً واحداً... إلخ، لقد كانت تجربة شاقة جداً مع ما فيها من متعة وأنس، وهنا كنت أتساءل: أي جهد بذله أولئك الأعلام حينما نقلوا لنا كل هذه الثروة بمئات المجلدات وبأعلى درجات الدقة والعناية، ثم حينما يتفق كل هؤلاء على أن صحيح البخاري هو أصحّ كتب السنّة على الإطلاق، فماذا يعني هذا؟ من هنا ندرك لماذا لا يأتي الطعن إلا من خارج هذه الدائرة، ممّن لا معرفة له لا بنقد السند ولا بنقد المتن. إن البخاري ليس هو من قال: إن كتابي هذا هو أصح الكتب في هذا العلم، وإنما هذه هي شهادة أهل الاختصاص على مرّ القرون، دون أن يملك البخاري أية سلطة للتأثير على هذه الشهادة، كما أن هذه الشهادة ليست غريبة في أي مجال علمي، فبكل تأكيد هناك مصادر معتمدة في علم الطب بناء على شهادة الأطباء، وهنالك مصادر معتمدة في الفلك أو الفيزياء أو الكيمياء، فهل يجوز أن نشكّك في كل ذلك، بحجة أن هؤلاء الأطباء أو غيرهم من كل الاختصاصات غير معصومين وغير مقدّسين؟ إننا حقيقة أمام أزمة لا تمسّ البخاري ولا كتب السنّة فقط، وإنما تضرب القواعد العلمية لكل علم من علوم الأرض، بحيث يختلط العلم بالجهل، والأسس المنهجية بالنزعات العبثية والفوضوية.
هناك من يردد سؤالاً آخر مؤدّاه، ماذا نفعل إذا وجدنا في البخاري ما يعارض القرآن الكريم، أو يعارض العقل؟ وهذا السؤال بدأ يتردد مع هذه الموجة كجزء من حملة التشويه ومحاولة النيل من مكانة البخاري...
المسألة ليست مسألة تقديس للبخاري، ولو كانت المسألة كذلك لاتجه الناس إلى موطّأ الإمام مالك إمام دار الهجرة، أو مسند ابن حنبل إمام أهل السنّة، بل لقدّسوا مرويّات البخاري نفسه في كتبه الأخرى، فالمسألة عند...
يتعرض صحيح البخاري هذه الأيام لحملة من التشكيك وإثارة الشبهات، مع حالة من الغموض بالنسبة لدوافعها وغاياتها، والعلاقات التي تجمع بين أصحابها، الذين كأنهم تفرّغوا اليوم أو فُرّغوا لهذه المهمة. هؤلاء بالعموم لم يُعرف عنهم...
لست أهوّن أبداً من مشروعية الغضب في مثل هذه الصدمات، بل أعتبر هذا دليلاً على حياة الأمة واعتزازها بهويتها وبذاتها، وبالعنوان الكبير الذي يجمعها، رغم محاولات تغييبها وتجزئتها، فحينما أرى شاباً عربياً أو تركياً أو...
قبل ثلاثين سنة، استبشر التيار الإسلامي بالانقلاب الذي قاده الرئيس عمر حسن البشير، وتصاعدت الآمال بالنموذج المرتقب للحكم الإسلامي المعاصر، وصار الناس يتداولون الأخبار والقصص عن زهد الرئيس البشير وتواضعه وحكمته، حتى سمعت من أحد...
بقرار من وزارة التعليم في دولة قطر، تشكلت لجنة من الكفاءات العالية لمراجعة وثيقة المعايير المتعلقة بمناهج التربية الإسلامية. وقد جاء القرار بحد ذاته ليعكس رؤية عميقة وواعدة يمكن تلخيصها في الآتي: أولاً: الاهتمام الخاص...
إن الحكم الوراثي السلالي كان جزءاً من ثقافة العرب عموماً، فإذا مات شيخ القبيلة ورثه ابنه، فإن لم يتهيّأ كان أقرب الناس إليه، ودول العالم المجاور للجزيرة -على الأقل- لم تكن تعرف غير هذا، وحينما...
من الغريب جداً أن «المتنورين» بروح العصر وقيمه وثقافته، يجعلون معيار الحكم على تلك المرحلة معياراً مستنداً بالأساس إلى روح «القداسة» أو قداسة «الروح»، فمرة يحدّثونك عن جريمة الخروج على الإمام علي، بمحاكمة أحادية الجانب،...
التاريخ بكل تأكيد لا تصنعه الملائكة، وإنما هو صناعة بشرية بأحداثه ومواقفه ورواياته وتدويناته وتحليلاته واستنتاجاته ومصادره، إلا ما ورد منه بآية قرآنية أو حديث صحيح. هذه المقدمة -التي ينبغي ألا نختلف فيها- تفتح باباً...
تستغل الباطنية اليوم حالة الضعف العام الذي تمر به الأمة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وما يصاحبها من تفكك واضطراب في المنظومة القيمية والعقدية الجامعة، وتراجع مستويات التعليم الديني، وعجز المؤسسات الشرعية والجماعات الإسلامية عن مواجهة التحديات...
الباطنية مذاهب مختلفة، يجمعها اعتقاد باطن للقرآن يخالف ظاهره، وأن هذا الباطن هو مراد الله تعالى، والمقصد من هذا إنما هو تحريف العقيدة وإبطال الشريعة، وإشاعة الشك والفوضى، وتبديل الأحكام الواضحة بمفاهيم عائمة لا تحق...
الحقيقة أن العلماء لم يختلفوا في القطعيات أو البديهيات، لكنها أزمة الحوار التي حوّلت الخلاف في هذه المسألة وغيرها من دائرة الظنّيات إلى دائرة القطعيات، ومن دائرة الفرعيات إلى دائرة الكليات، وهي أزمة تنقل الحوار...