


عدد المقالات 336
ربما يتساءل البعض: إذا كانت ولاية العهد أو التوريث ضرورة فلماذا التوريث السلالي؟ لماذا لا يكون التوريث للأصلح؟ ومع وجاهة هذا التساؤل لكنه من الناحية العملية يصعب تصوره، فإذا كانت الأمة هي التي تختار الأصلح عدنا إلى المربع الأول، فكيف ستختار الأمة هذا الأصلح؟ وإذا كان الحاكم هو الذي يختار الأصلح فإن هذا قد يحدث تنافسا أشد خطرا، فأي بلد أو قبيلة أو مذهب يرضى أن يكون الأصلح عند غيره؟ ولو كان اختيار الأصلح بإطلاق ممكنا في ذلك التاريخ فلماذا ميّز الإسلام قريشا وحصر فيها الخيار؟ وليس معنى هذا أننا نزكي خيار الحكام في هذا التوريث فالله أعلم بالنيات، والشهوة الخفية موجودة، ولكننا نتحدث عن النظام العام الذي سارت عليه الأمة ورضيت به محاولة منا لفهم موقف الأمة هذا إن كان مؤشرا على ضعفها وجبنها أمام سطوة الحاكم، أو كان عن دراية بالواقع وحكمة مصقولة بكرّ الأيام والليالي. ربما يقرن بعض المنظّرين بين ولاية العهد والاستبداد الدموي في قمع «المعارضة» كما حصل أيام يزيد في واقعة الطف وأيام الحجاج، ومع بشاعة كل ما جرى لكن هذا لا يعفينا من التشخيص الدقيق والتحليل الموضوعي، فطريقة الحاكم في تعامله مع الخصوم لا علاقة لها بطريقة تسنمه للحكم، فلقد شنّ الخليفة الراشد علي بن أبي طالب حروبا على معارضيه في وقعة الجمل وصفين راح ضحيتها أكثر مما راح في الطف والحرة، بينما اختار عثمان الخليفة الراشد أيضا السلم مع معارضيه لآخر لحظة حتى تمكنوا من قتله، أما صلاح الدين فإنه لم ير طريقا لتحرير القدس إلا بضم الموصل بالقوة وقال كلمته الشهيرة (إن فتح الموصل إلى بيت المقدس موصل)، ولو استقرأنا التاريخ فإننا قد نجد الصورة وضدها في العهد الواحد وذلك بحسب طبيعة الحاكم وثقافته والظروف التي تواجهه. نعم من حق الأمة أن تضمن سيادتها وسلامة هويتها وتحقيق العدل بين أبنائها، وهذا ما نفخر به في غالب تاريخنا لأن الحكم الوراثي لم يكن حكما مركزيا أو شموليا، فهناك مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث، وهناك توسيع صلاحيات الولايات، وقد كان للعلماء تأثير في الناس ربما أقوى من تأثير الخليفة نفسه، وقد سألت الطلاب في الجامعة ما اسم الخليفة الذي كان في زمن الإمام الشافعي؟ فلم يذكره أحد، وهذا يعني أن شهرة الشافعي كانت أوسع من شهرة الخليفة نفسه، ولم يكن الخليفة يطلب من الناس تقليده فيما يراه بل كان هو وأركان دولته وولي عهده يتتلمذون على يد العلماء ويستفتونهم أمام الناس! فلم يكن النظام الوراثي يحكم المشهد كله، فالأمة لها مؤسساتها التشريعية والقضائية والتربوية التي تضمن هويتها ووحدتها، ولذلك نرى بعض الباحثين يشبّه الحكم الوراثي الإسلامي بالملكية الدستورية المعمول بها في بعض الدول الأوروبية اليوم، ومع تحفظنا على هذا التشبيه في بعض التفاصيل الفارقة والتي يطول شرحها، إلا أنه تشبيه وجيه يسهم لا شك في تقريب الصورة. وأخيرا فهل الحكم غاية بحد ذاته؟ أو هو وسيلة لتحقيق غايات أكبر؟ في الغرب ينظرون إلى المشاركة السياسية كجزء من شخصية الفرد والتعبير عن إرادته، وبالتالي فهي عندهم غاية، وفي تاريخنا هي وظيفة مرتبطة بتحقيق مصالح العباد، ولذلك لا تجد مناقشات فكرية جادة في كل تراثنا عن مدى شرعية وصول هذا الخليفة أو ذاك بل الحديث دائما عن إنجازاته الداخلية والخارجية، وقد تحقق بالفعل في ظل ثقافتنا هذه للأمة كل ما ترجوه من تقدم ورقي في كافة المجالات المعرفية والقضائية والإدارية والصحية.. إلخ وأصبحت الأمة الأولى في العالم علما وخُلقا وقوة وعدلا، وهذا ما أصبح ركنا أساسا في هويتنا ونموذجا صالحا للفخر والتأسي، مع تأكيدنا أن هذا التراث ليس معصوما ولا مقدسا ولا يصح أن نستنسخه في حياتنا المعاصرة، لكن الإنصاف والمنهج العلمي يتطلبان منا أن نتجرد من الأحكام المسبقة والمتسرعة، لنقرأ كل تاريخ بمعطياته، ونوزن المشهد بصورته المركبة والمتكاملة، فإذا أردنا بعد هذا أن نختار لواقعنا فلسنا ملزمين بنسخ تجربة الأجداد مع اعتزازنا بهم، ولسنا ملزمين أيضا بنسخ التجارب الأجنبية المعاصرة، بل علينا أن نقدّر المستوى الثقافي العام والقدرة الذاتية على حماية المشروع الذي نختاره، وأن تكون لنا الرؤية الشاملة فلا تسيطر علينا فكرة واحدة، فالحرية والمشاركة السياسية طموح مشروع لكن الاستقرار والأمن أيضا من الأهداف المطلوبة، وقد رأينا التجارب الثورية والجمهورية والجماهيرية فلم تقدم لشعوبها إلا فارقا إضافيا متخلفا قياسا بالنظام الوراثي التاريخي، بل وبالنظام الوراثي الحالي والسائد في دول الخليج والأردن والمغرب. وتلخيصا لما مرّ نقول: إن الشورى في الإسلام لها صور تطبيقية متنوعة فالشورى على عهد أبي بكر غيرها على عهد عمر وهي على عهد عمر غيرها على عهد عثمان وهكذا، وقد تمتزج الشورى بالاستخلاف الشخصي «استخلاف أبي بكر لعمر» أو استخلاف مجموعة محددة «الستة الذين اختارهم عمر» لا يكون الخليفة إلا منهم، أو لا تمتزج أصلا كما في مقتل عثمان حيث لم يستخلف أحدا، وعليه فاتهام معاوية بأنه نقض الشورى اتهام باطل لأنه شاور واستخلف، وكان أهل الشام معه ثم تبعتهم الأمة، وإذا جاز تمثيل أهل المدينة للأمة أيام أبي بكر وعمر وعثمان ثم جاز تمثيل أهل العراق في ولاية الحسن فلا مبرر لحرمان أهل الشام من هذا الاستحقاق بعد أن انتقلت العاصمة إليهم وكان فيهم من كبار الصحابة من فيهم. أما التوريث السلالي فهو وإن كان صيغة جديدة للحكم الإسلامي لكنه كان الأوسع تاريخيا وجغرافيا واستمر العمل عليه حتى سقوط الخلافة الإسلامية وكان من مخرجاته الخلفاء الأتقياء والفاتحون العظماء الذين حافظوا على هيبة الأمة وموقعها الريادي في المجالات الحضارية المختلفة. ولذلك فالطعن في معاوية بن أبي سفيان يحمل في طياته الطعن في تاريخ الأمة كله، إضافة إلى الطعن المباشر بمن اختاره واليا على الشام (عمر وعثمان) وبمن بايعه خليفة للمسلمين ومنهم (الحسن والحسين) وكبار الصحابة. أما شبهة أنه خرج عن سنة الخلفاء الراشدين فلم تكن للخلفاء الراشدين سنة واحدة في إدارة الحكم ولا في طريقة تحقيق الشورى، وإذا كانت حقبة الخلفاء الراشدين على قصرها قد شهدت تغييرا في أسلوب الحكم والشورى من خليفة إلى آخر فإن هذا سيفتح الباب لخيارات أخرى تتناسب مع التوسع الجغرافي والامتداد التاريخي، وفي المقابل فإن الذين يتمسكون بسنة الراشدين ويطعنون في معاوية لم يكونوا منسجمين مع أنفسهم فإن من سنتهم العملية اختيارهم للأصلح والأكفأ فمعاوية الذي تولى الشام بأمر عمر وإقرار عثمان لعشرين سنة تقريبا كان الأصلح والأكفأ وإلا عاد الاتهام على سنة الراشدين أنفسهم. أما كون معاوية لم يكن من كبار الصحابة فهذا كلام مجمل فإن كان المقصود بهم السابقون فمعاوية ليس منهم، وإن كان المقصود بالكبار القادة والنخبة وأصحاب الرأي فمعاوية منهم ولا شك إذ كان قائدا شرعيا لأمة فيها كبار الصحابة وفقهاؤهم من يوم ولايته على الشام إلى مبايعته خليفة للمسلمين وبإجماع المسلمين ولذلك سميت ولايته بعام الجماعة. بقي أن الدفاع عن معاوية لا ينبغي أن ينظر له على أنه دفاع عن شخص مهما كان مقامه فهو الآن عند الله والله أعلم به وأرحم، وإنما هو رد أملته الضرورة بوجه المشروع الذي جعل من معاوية بابا للاختراق وأداة للسطو على هوية الأمة بكل تاريخها وتراثها.
هناك من يردد سؤالاً آخر مؤدّاه، ماذا نفعل إذا وجدنا في البخاري ما يعارض القرآن الكريم، أو يعارض العقل؟ وهذا السؤال بدأ يتردد مع هذه الموجة كجزء من حملة التشويه ومحاولة النيل من مكانة البخاري...
المسألة ليست مسألة تقديس للبخاري، ولو كانت المسألة كذلك لاتجه الناس إلى موطّأ الإمام مالك إمام دار الهجرة، أو مسند ابن حنبل إمام أهل السنّة، بل لقدّسوا مرويّات البخاري نفسه في كتبه الأخرى، فالمسألة عند...
إن هذا الاضطراب والتخبّط لدى هؤلاء يكشف أيضاً عن جهل عريض في أصول هذه العلوم ومبادئها الأولية، ولذلك لا ترى هذا الطعن إلا منهم ومن أمثالهم، ممن لا علم لهم بالسنّة وعلومها. إن علماء السنّة...
يتعرض صحيح البخاري هذه الأيام لحملة من التشكيك وإثارة الشبهات، مع حالة من الغموض بالنسبة لدوافعها وغاياتها، والعلاقات التي تجمع بين أصحابها، الذين كأنهم تفرّغوا اليوم أو فُرّغوا لهذه المهمة. هؤلاء بالعموم لم يُعرف عنهم...
لست أهوّن أبداً من مشروعية الغضب في مثل هذه الصدمات، بل أعتبر هذا دليلاً على حياة الأمة واعتزازها بهويتها وبذاتها، وبالعنوان الكبير الذي يجمعها، رغم محاولات تغييبها وتجزئتها، فحينما أرى شاباً عربياً أو تركياً أو...
قبل ثلاثين سنة، استبشر التيار الإسلامي بالانقلاب الذي قاده الرئيس عمر حسن البشير، وتصاعدت الآمال بالنموذج المرتقب للحكم الإسلامي المعاصر، وصار الناس يتداولون الأخبار والقصص عن زهد الرئيس البشير وتواضعه وحكمته، حتى سمعت من أحد...
بقرار من وزارة التعليم في دولة قطر، تشكلت لجنة من الكفاءات العالية لمراجعة وثيقة المعايير المتعلقة بمناهج التربية الإسلامية. وقد جاء القرار بحد ذاته ليعكس رؤية عميقة وواعدة يمكن تلخيصها في الآتي: أولاً: الاهتمام الخاص...
إن الحكم الوراثي السلالي كان جزءاً من ثقافة العرب عموماً، فإذا مات شيخ القبيلة ورثه ابنه، فإن لم يتهيّأ كان أقرب الناس إليه، ودول العالم المجاور للجزيرة -على الأقل- لم تكن تعرف غير هذا، وحينما...
من الغريب جداً أن «المتنورين» بروح العصر وقيمه وثقافته، يجعلون معيار الحكم على تلك المرحلة معياراً مستنداً بالأساس إلى روح «القداسة» أو قداسة «الروح»، فمرة يحدّثونك عن جريمة الخروج على الإمام علي، بمحاكمة أحادية الجانب،...
التاريخ بكل تأكيد لا تصنعه الملائكة، وإنما هو صناعة بشرية بأحداثه ومواقفه ورواياته وتدويناته وتحليلاته واستنتاجاته ومصادره، إلا ما ورد منه بآية قرآنية أو حديث صحيح. هذه المقدمة -التي ينبغي ألا نختلف فيها- تفتح باباً...
تستغل الباطنية اليوم حالة الضعف العام الذي تمر به الأمة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وما يصاحبها من تفكك واضطراب في المنظومة القيمية والعقدية الجامعة، وتراجع مستويات التعليم الديني، وعجز المؤسسات الشرعية والجماعات الإسلامية عن مواجهة التحديات...
الباطنية مذاهب مختلفة، يجمعها اعتقاد باطن للقرآن يخالف ظاهره، وأن هذا الباطن هو مراد الله تعالى، والمقصد من هذا إنما هو تحريف العقيدة وإبطال الشريعة، وإشاعة الشك والفوضى، وتبديل الأحكام الواضحة بمفاهيم عائمة لا تحق...