alsharq

د. محمد عياش الكبيسي

عدد المقالات 336

سنة العراق والبحث عن المرجعية 2-2

19 يونيو 2012 , 12:00ص

إذا كانت المرجعية لا تنزل من السماء، ولا تعين بقرار من الدولة، ولا يحق لشخص ما مهما بلغ أن ينصب من نفسه مرجعاً، فلم يبق إلا اختيار الناس والتفافهم حول من يثقون به فرداً أو مؤسسة أو جماعة، فما الذي يحول بين جمهور أهل السنة وبين هذا الاختيار؟ الشائع اليوم أن الجمهور السني يلوم قياداته المتفرقة والمشتتة، وهذا اللوم قد يتحول إلى حالة من الإحباط تجعل هذا الجمهور مشلول الحركة وغير قادر على مواكبة التحديات، ولا حتى الدفاع عن نفسه، وهو ما ينذر بمستقبل مرعب وخطير عنوانه الأبرز»الضياع». وقد ظهرت مثل هذه المؤشرات الخطيرة في حدثين جزئيين لكنهما يحملان دلالات في غاية الخطورة: الأول: فضيحة الأسير»ليث الدليمي» والتي تناقلتها أغلب وسائل الإعلام وهو يستنجد بالضمير الإنساني لتخليصه وزملائه الأسرى من وطأة التعذيب الوحشي الذي يتعرض له كل المعتقلين السنة في سجون المالكي. الثاني: اقتحام مسجد الآصفية في بغداد من قبل قوات حكومية رسمية وطرد الموظفين السنة، وتحويله إلى»حسينية الكليني!» بحجة وجود قبر الكليني في هذا المسجد، فالمسجد في «دولة القانون» يكون تابعاً للقبر! وهذا على فرض صحة حكاية القبر هذه، هذا المسجد الذي كان من أبرز المعالم السنية في بغداد، حيث كانت تتبعه مدرستان إسلاميتان تحملان اسمه، الأولى في بغداد والثانية في الفلوجة، وقد تخرج منهما أشهر علماء السنة في العراق، والمسجد بمدرستيه كان وقفاً عثمانياً أسسه القائد العثماني المعروف بآصف الزمان، تجدر الإشارة هنا إلى أن «آصفية الفلوجة» قد تحولت إلى أكوام من التراب بفعل الصواريخ الأميركية المباشرة، كما أن هناك مدارس عثمانية أخرى تتعرض اليوم للتصفية أو الاغتصاب، ومنها المدرسة «الحميدية» في سامراء والتي بناها السلطان عبدالحميد الثاني. ردة الفعل السنية كانت باهتة وضعيفة وغير متوقعة حتى من أكثر الناس تشاؤماً، وهذا من شأنه أن يفتح شهية المشروع الصفوي الإيراني لابتلاع السنة بكل تاريخهم وجغرافيتهم. والعقبة التي تحول دون الفعل المؤثر هي «تشتت القيادات»، وهنا لا بد من وضع النقاط على الحروف ووضع الحروف على السطور أيضاً: إن الاختلاف في الرؤى والتصورات شأن مألوف لدى كل النخب المثقفة في العالم، فتقويم الواقع وتقدير التحديات اليومية وحتى المصيرية وترتيب أولوياتها لا يخضع للوحي المقدس، والناس متفاوتون بمستوياتهم العلمية وخلفياتهم الثقافية والتربوية، ومن هنا جاءت فكرة «المنافسات السياسية»، حيث يتم عرض الرؤى والمناهج المختلفة على عامة الناس على شكل أحزاب سياسية أو قوائم انتخابية، ثم يكون الحسم بيد الجمهور، هذا هو آخر ما توصلت إليه الخبرة البشرية في إدارة المشاريع القيادية المتنوعة والمتنافسة. في الإسلام هناك تشجيع مفتوح للاجتهاد في كل ما لا نص فيه، وتشجيع الاجتهاد يلزمه بالضرورة القبول بنتيجته وهي الاختلاف، والذي يطالب بالاجتهاد ويتضايق من الاختلاف يقع في ازدواجية ثقافية معيبة، وعليه فمطالبة العلماء والمجتهدين والسياسيين والمثقفين بتوحيد اجتهاداتهم مطالبة غير واعية وغير مفهومة أصلاً، وتنم عن حاجة عاطفية ووجدانية أكثر من كونها تعبيراً عن رؤية علمية منهجية. إذاً الاختلاف في الرؤى والتصورات والاجتهادات بشروطها المعروفة حالة طبيعية ومنطقية وشرعية لا غبار عليها، لكن المشكلة تتلخص في الجانب العملي، حيث إن الجمهور يريد موقفاً موحداً وواضحاً ليتحرك على أساسه، وهو لا يفهم كيف يكون المصيب مأجوراً والمخطئ مأجوراً أيضاً، ولا يدري كيف يحول هذه الفلسفة المركبة إلى قرار ميداني يضمن للمجتمع وحدته وتماسكه ويحقق له أهدافه. ينطلق الإسلام في حله لهذه المشكلة من نقطة جوهرية، وهي التفريق بين ما يؤثر سلباً على وحدة الأمة وتماسكها وما لا يؤثر، فمثلاً غالب الفقه المتعلق بالعبادات الفردية والأحوال الشخصية وعقود المعاملات بين الأفراد.. إلخ هذا كله متروك للاجتهاد فقهاً وتطبيقاً ولا يضر الخلاف فيه، إلا في حالات معينة، أما الاجتهادات المتعلقة بالشأن العام في السلم والحرب والتفاوض والسياسات العامة ونحوها، فلا شك أن هذا لا يقبل فيه الخلاف «ميدانياً» وإن جاز فيه الخلاف «نظرياً» بمعنى أن الخلاف النظري بآلية الاجتهاد ينبغي أن يحسم في النهاية لصالح الموقف الموحد، فيكون الاجتهاد هو الساحة التي تجمع كل الاحتمالات والنظريات بمنتهى الحرية والوضوح، ثم يضع الإسلام أدواته في الحسم باختيار الأغلبية، كما حصل في غزوة أحد، حيث طرح أكثر من سبيل للمواجهة، إلا أن الأغلبية اختارت الخروج إلى أحد، أو باختيار السلطان الشرعي، حيث إن أمر القيادة التنفيذية يحسم اجتهادات الجنود والمستشارين، لكن ليس من بين هذه الأدوات منع الاجتهاد أو منع الخلاف. وبما أن أهل السنة في العراق ليس لهم «سلطان» قادر على الحسم بقوة القانون فلم يبق أمامهم إلا اختيار الأغلبية وانحيازهم لاجتهاد واحد أو مركب من بين الاجتهادات المطروحة على الساحة، وهذا يتطلب قدراً من الوعي وقدراً أكبر من الشعور بالمسؤولية. على الجمهور السني أولاً أن يضع إطاراً توصيفياً واضحاً لمشكلته، ومن خلال هذا الإطار سيتمكن من الجواب عن السؤال المستفز الذي عبر عنه أحد الكتاب العرب في مقالته «سنة العراق ماذا تريدون بحق السماء؟» وسيتمكن أيضاً من اختيار المرجعية التي يحقق من خلالها ما يريد. إن السني بالروح التي يحملها وهي روح الأمة وهويتها وتاريخها وبشعوره الوطني حيث يعد نفسه الباني لهذا الوطن ومجده وحضارته بينما اكتفى الآخرون بالمعارضة الشاملة والمستمرة- لا يستطيع اليوم أن يغير عنوانه أو موقعه، ولذلك انطلق لوحده رغم جراحاته ليدافع عن العراق في منازلة التحرير الكبرى ضد الاحتلال الأميركي، وقد كان يتوقع أن الآخرين سيتفرغون لتحقيق مصالحهم ومآربهم الانتهازية، لكنه ربما لم يكن يتوقع أنهم سيعاقبونه فوق ذلك على وطنيته، بل وسيتحالفون مع العدو الأميركي الذي تغذيه هو الآخر ثقافة الثأر من المقاومة وحاضنتها الطبيعية. إن السنة عليهم أن يعترفوا بالواقع الجديد على مرارته، وإن الدفاع عن العراق لن يكون بالتخلي عن وجودهم وهويتهم، بل إن ضعف السنة وضياعهم هو الذي سيقود إلى ضعف العراق وضياع هويته. وفي هذا الواقع المرير لا بد من طرح الأسئلة المفصلية التي يجب أن نجيب عنها قبل البحث عن المرجعية، مثل: 1- هل هناك بالفعل مشروع طائفي يهدف إلى استئصال الوجود السني ومحو هويتهم وتاريخهم؟ 2- هل هناك فرصة لأن يتمرد المجتمع الشيعي على أدوات التحكم الديني والسياسي لينضم بالفعل إلى المشروع الوطني أو الربيع العراقي؟ 3- وإذا وقع أهل السنة بين خيارين: نظام مركزي بهيمنة شيعية مطلقة، وبين نظام فيدرالي يضمن للسنة خصوصيتهم الثقافية والدينية وحقوقهم المعيشية والأمنية، فما الذي يفضلون؟ 4- إذا رفض السنة الفيدرالية ورفضوا الخضوع للهيمنة الطائفية فهل عندهم القدرة لفرض مشروعهم الوطني على العراق من شماله إلى جنوبه؟ 5- إذا أصر الشيعة على انضوائهم في البيت الشيعي وتحت مظلة المرجعية فبأي عنوان سنخاطبهم أو نتحاور معهم، هل سنقول لهم: أنتم الشيعة ونحن أهل العراق، أو نحن الذين ليس لنا اسم؟ الإجابة الصادقة والمسؤولة عن هذه الأسئلة هي التي تعيننا على رسم خارطة الأهداف الكبرى وترتيب أولوياتها، ثم بعد هذا ننتقل إلى المشاريع المطروحة بأسمائها ورموزها، ونختار منها الأكفأ والأقدر على تحقيق هذه الأهداف، وسنجد أن العراق زاخر بالكفاءات والإمكانات الهائلة، وضم هذه الكفاءات في إطار مرجعي واسع ليس أمراً مستحيلاً، لكن المستحيل أن ندعو إلى مرجعية موحدة قبل أن نحدد بالضبط ماذا نريد من هذه المرجعية. إن التقليد الأعمى للمرجعيات على وفق العرف الشيعي مرفوض في الإسلام، وإن الانبهار بالصور والرموز والمؤثرات الإعلامية لا يقود إلى حل، الحل أن نعرف مشكلتنا بالضبط، ثم نختار القيادة المناسبة لهذه المشكلة، وبعد هذا سنرى أصحاب الاجتهادات الأخرى سيذوبون في المجتمع، ومن هنا تتكون الوحدة المنشودة، وهو باختصار توحيد المرجعيات باتجاه الهدف، وليس توحيد الأهداف باتجاه المرجعية!

لماذا هذا الهجوم المتزايد على صحيح الإمام البخاري؟ (4-4)

هناك من يردد سؤالاً آخر مؤدّاه، ماذا نفعل إذا وجدنا في البخاري ما يعارض القرآن الكريم، أو يعارض العقل؟ وهذا السؤال بدأ يتردد مع هذه الموجة كجزء من حملة التشويه ومحاولة النيل من مكانة البخاري...

لماذا هذا الهجوم المتزايد على صحيح الإمام البخاري؟ (3-4)

المسألة ليست مسألة تقديس للبخاري، ولو كانت المسألة كذلك لاتجه الناس إلى موطّأ الإمام مالك إمام دار الهجرة، أو مسند ابن حنبل إمام أهل السنّة، بل لقدّسوا مرويّات البخاري نفسه في كتبه الأخرى، فالمسألة عند...

لماذا هذا الهجوم المتزايد على صحيح الإمام البخاري؟ (2-4)

إن هذا الاضطراب والتخبّط لدى هؤلاء يكشف أيضاً عن جهل عريض في أصول هذه العلوم ومبادئها الأولية، ولذلك لا ترى هذا الطعن إلا منهم ومن أمثالهم، ممن لا علم لهم بالسنّة وعلومها. إن علماء السنّة...

لماذا هذا الهجوم المتزايد على صحيح الإمام البخاري؟ (1-4)

يتعرض صحيح البخاري هذه الأيام لحملة من التشكيك وإثارة الشبهات، مع حالة من الغموض بالنسبة لدوافعها وغاياتها، والعلاقات التي تجمع بين أصحابها، الذين كأنهم تفرّغوا اليوم أو فُرّغوا لهذه المهمة. هؤلاء بالعموم لم يُعرف عنهم...

جريمة نيوزيلندا في إطارها الأوسع

لست أهوّن أبداً من مشروعية الغضب في مثل هذه الصدمات، بل أعتبر هذا دليلاً على حياة الأمة واعتزازها بهويتها وبذاتها، وبالعنوان الكبير الذي يجمعها، رغم محاولات تغييبها وتجزئتها، فحينما أرى شاباً عربياً أو تركياً أو...

وقفة مع التجربة الإسلامية في السودان

قبل ثلاثين سنة، استبشر التيار الإسلامي بالانقلاب الذي قاده الرئيس عمر حسن البشير، وتصاعدت الآمال بالنموذج المرتقب للحكم الإسلامي المعاصر، وصار الناس يتداولون الأخبار والقصص عن زهد الرئيس البشير وتواضعه وحكمته، حتى سمعت من أحد...

خطوات سليمة لبناء مناهج التربية الإسلامية

بقرار من وزارة التعليم في دولة قطر، تشكلت لجنة من الكفاءات العالية لمراجعة وثيقة المعايير المتعلقة بمناهج التربية الإسلامية. وقد جاء القرار بحد ذاته ليعكس رؤية عميقة وواعدة يمكن تلخيصها في الآتي: أولاً: الاهتمام الخاص...

المعايير الناقصة والمغلوطة في محاكمة التاريخ (3-3)

إن الحكم الوراثي السلالي كان جزءاً من ثقافة العرب عموماً، فإذا مات شيخ القبيلة ورثه ابنه، فإن لم يتهيّأ كان أقرب الناس إليه، ودول العالم المجاور للجزيرة -على الأقل- لم تكن تعرف غير هذا، وحينما...

المعايير الناقصة والمغلوطة في محاكمة التاريخ (2-3)

من الغريب جداً أن «المتنورين» بروح العصر وقيمه وثقافته، يجعلون معيار الحكم على تلك المرحلة معياراً مستنداً بالأساس إلى روح «القداسة» أو قداسة «الروح»، فمرة يحدّثونك عن جريمة الخروج على الإمام علي، بمحاكمة أحادية الجانب،...

المعايير الناقصة والمغلوطة في محاكمة التاريخ (1-3)

التاريخ بكل تأكيد لا تصنعه الملائكة، وإنما هو صناعة بشرية بأحداثه ومواقفه ورواياته وتدويناته وتحليلاته واستنتاجاته ومصادره، إلا ما ورد منه بآية قرآنية أو حديث صحيح. هذه المقدمة -التي ينبغي ألا نختلف فيها- تفتح باباً...

حينما تتبرقع الباطنية بشعارات التجديد (2-3)

تستغل الباطنية اليوم حالة الضعف العام الذي تمر به الأمة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وما يصاحبها من تفكك واضطراب في المنظومة القيمية والعقدية الجامعة، وتراجع مستويات التعليم الديني، وعجز المؤسسات الشرعية والجماعات الإسلامية عن مواجهة التحديات...

حينما تتبرقع الباطنيّة بشعارات التجديد (1-3)

الباطنية مذاهب مختلفة، يجمعها اعتقاد باطن للقرآن يخالف ظاهره، وأن هذا الباطن هو مراد الله تعالى، والمقصد من هذا إنما هو تحريف العقيدة وإبطال الشريعة، وإشاعة الشك والفوضى، وتبديل الأحكام الواضحة بمفاهيم عائمة لا تحق...