alsharq

د. فيصل بن جاسم آل ثاني

عدد المقالات 58

من مأمنه يؤتى الحذر

12 نوفمبر 2012 , 12:00ص

لما تولى المستعصم الخلافة سنة 640 هـ قرب إليه مؤيد الدين محمد بن العلقمي وجعله وزيرا له يأنس برأيه ويأخذ بمشورته، وما زال الخليفة يدنيه ويقربه ويثق فيه ويقدمه على غيره حتى فوض إليه مقاليد الدولة، فحصل له من الوجاهة والجاه ما لم يحصل لأحد سواه. انتهز ابن العلقمي ثقة الخليفة به واستغلها أسوأ استغلال، فاستثمرها لتصفية حساباته المذهبية وتنفيس حقده الطائفي، فأخذ يراسل هولاكو سرا ويجرئه ويقوّي عزمه ويطمعه على قصد العراق؛ واعداً إياه ببذل كل ما يستطيع من أجل تسهيل مهمته وتحقيق هدفه بالنصر على المسلمين. وبينما كانت جيوش التتار بقيادة هولاكو تزحف حثيثا باتجاه بغداد ناشرة في طريقها الدمار والهلاك، كان ابن العلقمي ينفذ تواطؤه ويحكم خيانته من الداخل، فعمل على قطع أرزاق الكثير من الجند بتسريحهم، وتخفيض رواتب من بقي منهم، واقتنع الخليفة بسداد هذا الرأي وصدقه بناء على ثقته في ابن العلقمي من جهة، وغباء وبلادة الخليفة من جهة أخرى، من دون أن ينتبه إلى أبعاد هذا التخطيط وخطورته، وما كان يحاك له وللأمة من ورائه، فالخليفة لم يفطن إلى أن ابن العلقمي لم يكن وزير صدق ولا جديرا بالثقة، ولم يصغ لنصح المخلصين الذين حذروه من خطورة هذا العقرب المقرب الذي يمكر به، ويريد الإضرار بالإسلام والمسلمين. فلم يرع الخليفة إلا وسيوف التتار تحيط بأسوار بغداد من كل جانب، فأتاه ابن العلقمي وأقنعه بأنه لا مخرج له مما أُحدق به من خطر إلا في مصالحة التتار على بعض المال لاتقاء شرهم، ولينجو بنفسه ويعصم المسلمين من حوله، فما كان من الخليفة إلا أن أحضر من دار الخلافة كثيرا مما عنده من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر، والأشياء النفيسة ليصالح به التتار، ولما خشي ابن العلقمي أن تميل نفس هولاكو للصلح طمعا في تلك الغنائم مما يفسد عليه خطته، حذر هولاكو أن لا يصالح الخليفة؛ قال الذهبي في تاريخ الإسلام: كان قد مشى حال الخليفة بأن يكون للتتار نصف دخل البلاد، وما بقي شيء أن يتم ذلك، وإنما الوزير ابن العلقمي قال لهولاكو: ما هذا بمصلحة فالمصلحة في قتله أي الخليفة، وإلا لا يتم لك ملك العراق. إن من يتحمل المسؤولية كاملة هو الخليفة باستهتاره وعدم مباشرته للأمور بنفسه، فما كان ابن العلقمي يستطيع القيام بدور الخيانة لو كان الخليفة متيقظا حازما يمتلك مواصفات رجل الدولة، ولكنه كان كما قال الذهبي: يلعب بالحمام، ويهمل أمر الإسلام، وابن العلقمي يلعب به كيف أراد، ولا يطلعه على الأخبار، حتى حصلت الفاجعة التي قال عنها ابن الأثير: بقيتُ عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليها رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نَعْيَ الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً. إن ابن العلقمي ليس شخصا ما كان في زمن مضى وانقضى، وإنما هو ظاهرة عابرة للزمان والمكان؛ وإن الواقع يخبرنا أن ظاهرة ابن العلقمي تتكرر كثيرا في كل عصر إلى عصرنا هذا؛ حيث يثق البعض بمن ليسوا أهلا للثقة ويقربون المنتفعين وأصحاب المصالح والمرتزقة والعملاء، ويسمعون لهم ويسلمونهم عقولهم وقلوبهم في الوقت الذي يقومون فيه بإبعاد الناصحين أصحاب الأمانة والكفاءة والصدق، إن الثقة بالشخص الخطأ والاعتماد عليه يعد من أخطر الأمور التي يتجاوز أثرها الشخص نفسه، لذلك لا بد للحازم العاقل من حسن اختيار من يقربه ومن يثق به ويعتمد عليه، فإنه مؤاخذ ومتأثر به، ولا بد وهو إما أن يسهم في نجاحه ورفعته وتخليد ذكره، وإما أن يكون سببا في فشله وتحطيمه؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ). وقال الشاعر: وأعظم أعداء الرجال ثقاتُها *** وأهون من عاديته من تحارب

استثمار في العباقرة

في ربيع الأول من سنة 41 هـ تنازل الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما إلى معاوية بن أبي سفيان عن الخلافة, وعلق المؤرخ ابن كثير على هذه الحادثة قائلاً: «وذلك كمال ثلاثين...

صانع الفرق

في العام الثامن للهجرة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية في قرابة ثلاثة آلاف فارس إلى البلقاء من أرض الشام لمقاتلة جيش يعد يومئذ أقوى جيوش العالم وأمر عليهم زيد بن حارثة، وقال‏:‏...

صانع الملوك

في يوم من الأيام بحدود 350 قبل الميلاد وقبل غروب الشمس كان فيلسوف الهند الكبير «شاناكيا» -وله أسماء أخرى اشتهر بها مثل «فشنوجوتبا» و «كاوتيليا»- يراقب باهتمام مجموعة من الصبية يلعبون؛ فلفت نظره أن أحد...

للنجاح معنى آخر

كان يُعرف بالفتى المُدَلَّل؛ فكان لا يلبس الثوب الواحد ليومين مُتتاليين، وكان له عِطر يُعرف به بسبب نَشْأته في أحضان أم مُترَفة فعاش في يُسر وسعة. اختار ابن الدار الواسعة السير في طريق الإسلام الشاقة،...

إدارة القلق

في العقد الأخير من القرن التاسع عشر(1890م) كان هناك شاب في العشرين من عمره يعمل لدى شركة «بوفالو فورج» في «بونالو» بنيويورك، وَعُيِّن في قسم آلات تزويد الغاز في مصنع تابع لشركة «بيتسبرج بلايت جلاس»...

صراع المشاريع الخاتمة: المشروع المنشود

جاءت قريش وشكت النبي إلى أبي طالب فكان جوابه عليه السلام لعمه وهم يسمعون: «يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية»، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقالوا:...

صراع المشاريع الحادي عشر: القراءة الواعية للتاريخ

لقد سرنا سوياً في هذه السلسلة التاريخية والفكرية المسماة «صراع المشاريع» برحلة طويلة من الزمن، حيث بدأنا في الحلقة الأولى من نهاية القرن الهجري الثالث إلى أن وقفنا في الحلقة العاشرة عند القرن الثامن الهجري،...

صراع المشاريع عاشراً: نهاية المشروع الصليبي

كان المشروع الصليبي أطولَ المشاريع المعادية للأمة عُمرا وأكثرَها استنزافا لطاقتها وإرهاقا لها، وقد استمر فترة طويلة من الزمن تعاقبت على حربه دولٌ إسلامية كثيرة حتى قدَّر الله سبحانه أن تكون نهاية وجودهم كإمارات وحكام...

صراع المشاريع: الأيوبيون ما بعد صلاح الدين

تُعتبر مرحلة الأيوبيين ما بعد «صلاح الدين» من أهم مراحل الصراع بين المشروع الإسلامي والمشروع الصليبي الذي أبى أن يَفتُر أو يستسلم؛ بل شنَّ أربع حملات متتاليةً وشرسة. والحقيقة أن «صلاح الدين الأيوبي» بما تميز...

صراع المشاريع ثامناً: وقفة تأمل

بوفاة الملك الناصر «صلاح الدين الأيوبي» رحمه الله عام589هـ يكون قد مضى على بدء ملحمة صراع المشاريع مرحلة زمنية كبيرة نسبياً تقارب الثلاثة قرون، وذلك إذا قدَّرنا بداية الصراع بظهور أول دولة للمشروع الباطني وهي...

صراع المشاريع سابعاً: الملك النبيل

يستمرصراع المشاريع ليتجاوز القرون من الزمن، والأمة من حرب إلى حرب، ومن صراع إلى صراع، تسطر ملحمة حضارية حافلة بالانتصارات والهزائم والأفراح والآلام توجتها البطولات التاريخية التي قادتها إلى نصر حضاري قبل أن يكون عسكريا...

صراع المشاريع 6 - قمةُ المجد

قال المؤرخ ابن الأثير: «طالعتُ سير الملوك المتقدمين فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز أحسن سيرة ولا أكثر تحريا للعدل منه، وهو أول من ابتنى دارا للعدل وكان يجلس فيها أربع مرات أسبوعيا...