


عدد المقالات 336
في زيارته للعراق سئل الطيب أردوغان: لماذا التقيت المرجعية الشيعية في النجف ولم تلتق المرجعية السنّية؟ فقال: وهل للسنة مرجعية؟ قالوا: نعم، هذا قبر أبي حنيفة هو مرجعيتنا! فتوجّه إلى القبر وقرأ الفاتحة على روح المرجعية السنية! هذا ما يمثل اليوم جانبا من المعضلة السنّية، فالبحث عن المرجعية في الوسط السنّي أصبح اليوم شغلا شاغلا لكل المتصدّين للشأن العام، وحتى المالكي لم يفته أن يدلي بدلوه للبحث في الأسماء والوجوه لاختيار المرجعية السنّية «المناسبة»! لكن لماذا المرجعية؟ وما وجه الحاجة إليها اليوم؟ وكيف يتم اختيارها أو تشكيلها؟ ولماذا لم تظهر هذه الحاجة في الأقطار الإسلامية الأخرى؟ هذه الأسئلة قد تفتح أبوابا واسعة وامتدادات عريضة في الدين والفكر والسياسة والثقافة والتاريخ. في الحياة البشرية البدائية ينحاز الناس إلى ولاءات تضمن لهم قدرا من الحماية وشيئا من التنظيم، فكانت القبيلة إطارا مناسبا لتحقيق هذه الغاية، وكان شيخ القبيلة هو «المرجع الأعلى» وهو من يناط به حماية القبيلة بالسيف، وحل مشكلاتهم بالحكمة، وسد حاجاتهم بالبذل. وحين تكون القبيلة عاجزة عن مواجهة التحديّات الكبرى فإنها تلجأ إلى نظام «الحلف»، وهو إطار أوسع يضم قبيلتين أو أكثر بقيادة واحدة، وهذه صورة متكررة وشائعة. وكان من التجارب الناجحة في تاريخ العرب «معركة ذي قار» التي خاضتها القبائل العربية المتحالفة لردع الفرس وتأديب نظامهم الكسروي الذي كان يستهين بالعرب ويستبيح حرماتهم قبل الإسلام. وهكذا تستجيب المجتمعات البشرية للتحديات حتى استقرت في صورة «الدولة»، وهي الإطار الأوسع والأكثر تطورا ومناسبة للحاجات البشرية المتزايدة والمتنوعة. وقد كان للإسلام الفضل الأكبر والمبكّر لهداية العرب وغيرهم إلى هذا النوع من التنظيم، حيث تمكنت الدولة الإسلامية ولقرون مديدة من سدّ هذه الحاجة وتقديم النموذج الأفضل في التجربة الإنسانية. طيلة القرون الماضية كانت الدولة الإسلامية بمؤسساتها المختلفة تمثل «المرجعية العليا» لكل المسلمين ما عدا الحالة النشاز في هذه التجربة وهي حالة»الطائفة الشيعية»، والتي اختارت «المعارضة المستمرة» لهذه الدولة على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، وهذه المعارضة ليست معارضة سياسية كالتي يعرفها العالم اليوم، وإنما هي معارضة لكل شيء وفي كل شيء حتى في المناسبات والفنون والأزياء وصيغ التعبير عن الذات، فهي هوية منفصلة بالكامل عن هوية الأمة. هذه الطائفة كان لا بد لها أن تنحاز لمرجعية أخرى غير مرجعية الدولة تستند إليها في تنظيم كيانها الداخلي الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وبهذا تكون عندنا صورتان متغايرتان تماما: صورة الأمة بسوادها الأعظم «أهل السنة والجماعة»، وهذه اختارت الدولة مرجعية لها، والصورة الثانية: الطائفة، وهذه اختارت مرجعية خاصة بها لا تعترف بمرجعية الدولة، وإن انحنت لها في ظروف الضعف والتقية، وبين الصورتين صراع ممتد تاريخيا وجغرافيا وبينهما اطراد عكسي، فكلما قويت الدولة ضعفت المرجعية، وكلما ضعفت الدولة قويت المرجعية. وأخطر ما يمكن أن يواجه السواد الأعظم هو فقدان الدولة، وهذا قانون مجتمعي إنساني عام، فكل الشعوب المتحضرة التي تتخذ من الدولة مرجعية لها ستنهار بشكل كارثي حين تسقط الدولة ويحصل الفراغ في الدستور أو السلطة، وأهل السنة في العراق اليوم ليسوا استثناء من هذا القانون، والذين يتلاومون داخل الوسط السنّي ويشعرون بالفشل أو العجز مخطئون. وهم لا يقدّرون المشهد بالمقاييس العلمية التي تحكم المجتمعات الإنسانية، فلو حصل لفرنسا أو أميركيا ما حصل للعراق لما اختلفت الصورة بل ربما ازدادت سوءا، ومَثل هذه الحالة مثل المجتمعات المتطورة التي تعتمد اليوم على التكنولوجيا مقارنة بالمجتمعات التي تعيش في الكهوف، فلو تعرضت محطات الكهرباء الرئيسية للعطل أو التخريب فإنها ستترك نتائج كارثية في المجتمعات المتحضرة، بينما لن تترك أي أثر في الكهوف، بل ربما يحدث العكس، حيث سيستفيد سكان الكهوف من حالة الفوضى العامة في تلك المجتمعات، وهذا يعني أن أي مجموعة وضعت لنفسها نظاما صغيرا مهما كان متخلفا فإن وضعها سيكون الأفضل عند انهيار النظام العام. إذاً حالة أهل السنة في العراق مع أنها حالة مأساوية وخطيرة إلا أنها حالة طبيعية ومنسجمة تماما مع الناموس الكوني الذي يحكم الحياة الإنسانية. والمطلوب هو إيجاد الصيغة الجديدة التي تتناسب مع الوضع الجديد الذي رسمته التحديات والتي هي أكبر بكثير من طاقة المجتمع السنّي وإمكاناته الذاتية، وهذا ما يفسّر أيضا حالة التغاير بين المجتمع السني العراقي الذي يشعر بالحاجة إلى حد الضرورة لتشكيل المرجعية، وبين المجتمع السنّي الأوسع الذي قد يستغرب مثل هذه الحاجة وربما يعدّها نوعا من التقليد للحالة الشيعيّة! لقد مرت الأمة بحالات تقرب أو تبعد من الحالة العراقية اليوم، وكلها تدور بين حالة غياب السلطة أو ضعفها وبين تخلي السلطة عن دورها ووظيفتها، فمثلا حين انحازت الدولة أيام المأمون والمعتصم لفكرة «خلق القرآن» وهي فكرة غريبة عن عقيدة الأمة، كانت الحاجة ماسة لمرجعية رشيدة وقادرة على حماية هذه العقيدة، ومع وجود عدد كبير من الفقهاء والمحدثين إلا أن الأمة التفّت بشكل تلقائي وسريع حول أحمد بن حنبل ليكون «إمام أهل السنة والجماعة» لما تميز به من موقف مسؤول وشجاع، والمثال الثاني لمّا تخلت «الخلافة» عن دورها في تحرير القدس ومجابهة الصليبيين، لم ينتظر الناس هذه الخلافة حتى تصحو من غفوتها، بل انحازت إلى مشروع التحرير الذي قاده آل زنكي ثم استكمل على يد صلاح الدين، ولم يكن صلاح الدين خليفة للمسلمين كما يظن البعض، ولم يكن كذلك جزءا من قرار الخلافة في بغداد مع ما كان يقدمه صلاح الدين من الرسوم الشكلية لمقام الخلافة! والمثال الآخر لما سقطت بغداد على يد المغول ووصل الخطر إلى الشام ومصر، استجدت حاجة جديدة ومختلفة عن سابقتها، فالخلافة قد سقطت بالكامل، ودولة المماليك في مصر لم تكن محل ثقة الجمهور، فالتفّ الناس حول العز بن عبدالسلام ليعبّر عن إرادتهم في ضرورة التصدي للخطر المغولي بصياغة المشروع الناظم والذي لا يستبعد أي أحد حتى المماليك أنفسهم. من هذه الأمثلة -وغيرها كثير- ندرك أن صناعة المرجعية في الظروف الاستثنائية تمرّ عبر مراحل طبيعية: المرحلة الأولى: وجود الحاجة العامة. المرحلة الثانية: وجود الجهة المبادرة والمتصدية لهذه الحاجة. المرحلة الثالثة: قناعة الجمهور بهذه الجهة والتفافهم حولها. إذاً على أهل السنّة في العراق اليوم أن يحددوا بالضبط ما الحاجة التي استجدت عندهم اليوم.. هل هي مثلا حاجة علمية تربوية؟ أو هي الحاجة للفتوى والاجتهاد؟ أو هي الحاجة لحماية وجودهم وهويتهم وحقوقهم؟ أو هي الحاجة لتحرير الوطن وتوحيد أبنائه ومكوّناته في إطار المرجعية الوطنية الجامعة؟ أو هي كل هذه الحاجات مجتمعة؟ إن تحديد الجواب في المرحلة الأولى هو الذي يمثّل بوصلة الاختيار. وهذه الخطوة هي مسؤولية الجمهور نفسه وليس مسؤولية المرجعيات والواجهات، فالعلماء مثلا متنوعون في اختصاصاتهم وتوجهاتهم وإمكاناتهم، ومن يصلح منهم لسد هذه الحاجة قد لا يصلح لسد حاجة أخرى، والشكوى من التفرق والاختلاف لا تنتج حلا، كما أن من يفكر بجمع كل العلماء والقادة والواجهات السنّية في مؤسسة تنصهر فيها الكفاءات والمواقف في مشروع واحد فإنه ربما يفكر بطريقة «طوباوية» أبعد بكثير من الواقع، لكن إذا كان الشارع السنّي قد عرف حاجته بعد كل هذه السنوات العجاف فإنه أقدر الآن على اختيار صورة المرجعية التي يريد، والتي يراها مناسبة لتحقيق أهدافه، فالقرار حقيقة متروك للجمهور نفسه، فأحمد بن حنبل لم ينصّب من السماء، ولم ينصّب هو نفسه مرجعا لأهل السنّة، كما أنه لم ينصّب بقانون من الدولة، وقد كان العلماء في عصره منقسمين أيضا في مواقفهم، لكن الجمهور وحده هو الذي حسم الموقف. وإذا كانت المعضلة السنّية اليوم أكبر من أن يتحملها فرد ما مهما كان علمه ووعيه واستعداده للتضحية، فإنه في المقابل لا يتصور تحقيق إجماع ما في مثل هذه المعضلة، والأقرب من هذا هو الدفع باتجاه المتقاربين في الرؤية لصياغة المشروع الناظم والمعبر بالصدق عن حاجة الجمهور، وحين يلتف الجمهور حول مشروعه هذا فإنه سيحسم بنفسه حالة الانقسام والتردد التي كان لها من التبعات الثقيلة ما يزيد ربما على كل التحديات الأخرى.
هناك من يردد سؤالاً آخر مؤدّاه، ماذا نفعل إذا وجدنا في البخاري ما يعارض القرآن الكريم، أو يعارض العقل؟ وهذا السؤال بدأ يتردد مع هذه الموجة كجزء من حملة التشويه ومحاولة النيل من مكانة البخاري...
المسألة ليست مسألة تقديس للبخاري، ولو كانت المسألة كذلك لاتجه الناس إلى موطّأ الإمام مالك إمام دار الهجرة، أو مسند ابن حنبل إمام أهل السنّة، بل لقدّسوا مرويّات البخاري نفسه في كتبه الأخرى، فالمسألة عند...
إن هذا الاضطراب والتخبّط لدى هؤلاء يكشف أيضاً عن جهل عريض في أصول هذه العلوم ومبادئها الأولية، ولذلك لا ترى هذا الطعن إلا منهم ومن أمثالهم، ممن لا علم لهم بالسنّة وعلومها. إن علماء السنّة...
يتعرض صحيح البخاري هذه الأيام لحملة من التشكيك وإثارة الشبهات، مع حالة من الغموض بالنسبة لدوافعها وغاياتها، والعلاقات التي تجمع بين أصحابها، الذين كأنهم تفرّغوا اليوم أو فُرّغوا لهذه المهمة. هؤلاء بالعموم لم يُعرف عنهم...
لست أهوّن أبداً من مشروعية الغضب في مثل هذه الصدمات، بل أعتبر هذا دليلاً على حياة الأمة واعتزازها بهويتها وبذاتها، وبالعنوان الكبير الذي يجمعها، رغم محاولات تغييبها وتجزئتها، فحينما أرى شاباً عربياً أو تركياً أو...
قبل ثلاثين سنة، استبشر التيار الإسلامي بالانقلاب الذي قاده الرئيس عمر حسن البشير، وتصاعدت الآمال بالنموذج المرتقب للحكم الإسلامي المعاصر، وصار الناس يتداولون الأخبار والقصص عن زهد الرئيس البشير وتواضعه وحكمته، حتى سمعت من أحد...
بقرار من وزارة التعليم في دولة قطر، تشكلت لجنة من الكفاءات العالية لمراجعة وثيقة المعايير المتعلقة بمناهج التربية الإسلامية. وقد جاء القرار بحد ذاته ليعكس رؤية عميقة وواعدة يمكن تلخيصها في الآتي: أولاً: الاهتمام الخاص...
إن الحكم الوراثي السلالي كان جزءاً من ثقافة العرب عموماً، فإذا مات شيخ القبيلة ورثه ابنه، فإن لم يتهيّأ كان أقرب الناس إليه، ودول العالم المجاور للجزيرة -على الأقل- لم تكن تعرف غير هذا، وحينما...
من الغريب جداً أن «المتنورين» بروح العصر وقيمه وثقافته، يجعلون معيار الحكم على تلك المرحلة معياراً مستنداً بالأساس إلى روح «القداسة» أو قداسة «الروح»، فمرة يحدّثونك عن جريمة الخروج على الإمام علي، بمحاكمة أحادية الجانب،...
التاريخ بكل تأكيد لا تصنعه الملائكة، وإنما هو صناعة بشرية بأحداثه ومواقفه ورواياته وتدويناته وتحليلاته واستنتاجاته ومصادره، إلا ما ورد منه بآية قرآنية أو حديث صحيح. هذه المقدمة -التي ينبغي ألا نختلف فيها- تفتح باباً...
تستغل الباطنية اليوم حالة الضعف العام الذي تمر به الأمة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وما يصاحبها من تفكك واضطراب في المنظومة القيمية والعقدية الجامعة، وتراجع مستويات التعليم الديني، وعجز المؤسسات الشرعية والجماعات الإسلامية عن مواجهة التحديات...
الباطنية مذاهب مختلفة، يجمعها اعتقاد باطن للقرآن يخالف ظاهره، وأن هذا الباطن هو مراد الله تعالى، والمقصد من هذا إنما هو تحريف العقيدة وإبطال الشريعة، وإشاعة الشك والفوضى، وتبديل الأحكام الواضحة بمفاهيم عائمة لا تحق...