سلسلة صراع المشاريع الحلقة الثالثة: المشروع الصليبي

بمبادرة من البابا «أوربان الثاني» عقد اجتماع في مدينة «كليرمنت» في فرنسا لمدة عشرة أيام حضره أكثر من 300 من رجال الكنيسة وأمراء مختلف دول أوروبا فألقى خطبة تعبر عن التدشين الحقيقي للحملات الصليبية، وكان للخطبة أكبر الأثر في نفوس الحاضرين؛ ومما جاء فيها: «يا شعب الله المحبوب المختار جاءت أخبار من فلسطين والقسطنطينية بأنباء محزنة تعلن أن جنسا لعينا قد طغى وبغى ودنس الأماكن المقدسة فليُثر هِمتكم ضريحُ المسيح المقدس ربنا ومنقذنا الذي تمتلكه الآن أمم نجسة..» وطلب البابا «أوربان الثاني» من رجال الكنيسة العودة إلى بلادهم ليبشروا بالحرب. وهكذا تحولت المبادرة إلى مشروع واضح الرؤية والمعالم للسيطرة على الشرق الإسلامي اسمه «الحملات الصليبية» استمر لأكثر من ثلاثة قرون كانت على النحو الآتي: 1 - الحملة الصليبية الأولى(1096م/490هـ) وقد انقسمت إلى قسمين حملة العامة وحملة الأمراء ونتج عنها نتائج خطيرة أدت إلى تأسيس إمارات صليبية في الشرق؛ هي «إمارة الرها» و»إمارة أنطاكية»، و»إمارة طرابلس» بعدما سقطت في أيديهم مدن الشام الساحلية وأخيرا سقوط مدينة القدس وتأسيس «إمارة بيت المقدس». وخلال حملتهم قاموا بمجازر رهيبة، بشهادة المؤرخ اللاتيني المشارك في أحداث حصار بيت المقدس» تود يبور» حيث قال: لما دخل الصليبيون المدينة(القدس) قاموا بعمل مذبحة رهيبة لكل من وجدوه بالمدينة. 2 - الحملة الصليبية الثانية (1147م) وكانت نتيجة استرجاع المسلمين «الرها» - أول إمارة صليبية في الشرق على يد البطل عمادالدين زنكي-؛ حيث توجهت للشرق الحملة الصليبية الثانية المكونة من الجيش الألماني بقيادة الملك «كونراد الثالث» والجيش الفرنسي بقيادة «لويس التاسع» وقد تعرض الجيش الألماني لضربة قاصمة من سلاجقة الروم بقيادة السلطان مسعود، واستطاع الجيش الفرنسي شق طريقه إلى القدس بصعوبة بالغة ثم اجتمع في مدينة القدس «كونراد الثالث» و»لويس التاسع» مع «بلدوين الثالث» ملك مملكة بيت المقدس، واتفقوا على قصد دمشق وحاصروها مع أن واليها كان أقرب الحلفاء المسلمين للصليبين، فاستنجد والي دمشق بسيف الدين غازي وأخيه نور الدين زنكي وبالتالي فشلت الحملة الصليبية وبرز في هذه المرحلة البطل نور الدين زنكي. 3 - الحملة الصليبية الثالثة (1187م- 583هـ) دعا إليه البابا «جريجوريس الثامن» ردا على فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي، وكانت الحملة بقيادة ملك فرنسا وملك إنجلترا وملك ألمانيا؛ إلا أن الأخير غرق في نهر «اللامس» فتشتت جنوده، وأما الفرنسيون والإنجليز فساروا حتى حاصروا عكا واحتلوها ثم عجزوا عن أخذ غيرها، وعجز صلاح الدين عن هزيمتهم فحصل صلح بين صلاح الدين وملك الانجليز بعد مغادرة ملك فرنسا، وسمي هذا الصلح بصلح الرملة وبموجبه احتفظ الصليبيون بالساحل من صور إلى يافا. 4 - الحملة الصليبية الرابعة (1199م/596 هـ) وكانت خطة الصليبين في هذه الحملة استهداف مصر لضرب القوة الإسلامية الكبرى ثم التوجه منها إلى القدس لاحتلالها؛ إلا أن أمراء البندقية وتجارها الذين تولوا توجيه الحملة وتمويلها حولوها ضد المجر لصراع بينهم وبين ملكها ثم وجهوها للقسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية بعد استدعاء قادة الحملة الصليبية من بعض أبناء بيت الحكم البيزنطي نتيجة خلافات بينهم وكان المقرر أن تنطلق الحملة للشام بعد القسطنطينية لكنها بعد اكتساح الصليبيين للقسطنطينية توقفت هناك. 5 - الحملة الصليبية الخامسة (1213م) ابتداء منذ هذه الحملة وما بعدها برزت مصر في حسبان الصليبيين كنقطة انطلاق لاحتلال بيت المقدس بعد أن أدركوا أنها مركز المقاومة الأقوى في العالم الإسلامي ضد الحملات الصليبية، لذلك اتفقوا على ضرورة ضرب مصر لتأمين ممتلكاتهم في بلاد الشام واستعادة السيطرة على بيت المقدس. فتحركت قوات مجرية ونمساوية من جنوب ألمانيا ووصلت إلى عكا ثم انضمت إليها قوات ألمانية وهولندية وتوجهت كلها إلى مدينة دمياط واستولت عليها، ثم تحركت باتجاه المنصورة وفي ذلك الوقت فاض النيل وفتح المصريون السد وقطعوا على الصليبيين خط الرجعة فغرقت أعداد كبيرة من الغزاة وحصل الصلح بطلب من الصليبيين وهو ما تم على أن يغادروا دمياط ويرجعوا من حيث أتوا وهكذا فشلت هذه الحملة. 6 - الحملة السادسة (1228م/625هـ) قاد هذه الحملة الملك الألماني فريدريك الثاني وهي من أغرب الحملات، حيث خرج في حملته محروما من الكنيسة، وأملاكه تُهاجم من جند البابا، وكان الملك الكامل الأيوبي استدعاه ووعده بالقدس إن هو نصره على أخيه الملك المعظم وقد مات الملك المعظم قبل حدوث أي معركة مع أخيه ولكن للآسف سلم الكامل بيت المقدس سِلما لفريديريك الثاني بعد أن خرب أسوارها. ومر بعض العلماء على القدس على تلك الحال من الخراب فقال: مررت على القدس مُسلِّما على ما تبقَّى من رُبوع وأنجمِ ففاضت دموع العين مني صبابةً على ما مضى من عصره المتقدم وقد رام عِلج أن يُعفيَ رسومه وشمر عن كفي لئيم مُذمم 7 - الحملة السابعة(1248م) وكان أهم أسبابها استعادة الملك الصالح أيوب للقدس وطبريا وعسقلان فصعقت الممالك الصليبية بالشام وأصبحت مهددة بخطر الضياع، وكانت هذه الحملة بقيادة ملك فرنسا الذي قصد مصر فسيطر على دمياط ثم المنصورة وتوجه إلى القاهرة، وفي هذه اللحظات الحرجة توفي الملك الصالح أيوب بسبب المرض فكتمت زوجته شجرة الدر الخبر وأخرجت وثيقة تعين ابنه «توران شاه» قائدا عاما للجيوش ونائبا للسلطان، وفي ملحمة عسكرية كبرى انتصر المسلمون ودمروا القوات الصليبية وأسروا «لويس التاسع» وفشلت الحملة السابعة، وهكذا توقفت الحملات الصليبية من أوروبا على بلاد الشام عام 1250م. إن هذه الحملات وما نتج عنها من ممالك وإمارات صليبية في بلاد الشام كانت هي مكونات المشروع الصليبي الغازي بهدف السيطرة والهيمنة على بلاد الشام، وما تقدم عرضه مختصر صغير جدا وإن كانت كل حملة تستحق كتابا كاملا. وقد تبعت هذه الموجة موجة أخرى عرفت باسم الاستعمار من شتى الدول الأوروبية شملت أغلب الدول الإسلامية. والآن وبعد خروج الاستعمار بقي النفوذ الغربي القوي المباشر أو الغير المباشر من خلال التحكم بالمؤسسات الدولية واستغلال شعار المجتمع الدولي وتطبيق لازدواجية المعايير، ولا تُبرأ النخب وأصحاب القرار في العالم العربي والإسلامي بل إنهم بلا شك السبب الرئيس للتخلف والضعف والوهن والوصول للمرحلة الغثائية. ولا شك أن قراءة التاريخ وما يحدث فيه من ملاحم وأحداث ضخمة، وربط ذلك كله بالواقع مع مراعاة اختلاف الزمان مهم جدا في صياغة الوعي والعمق الفكري ومعرفة الأعداء ومواطن الضعف فيهم وسب نهوض الأمم. قال تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ».