القيادة من منظور مختلف

في حرب فيتنام كانت الكتيبة الأولى من الفرقة السادسة في حالة مزرية ومادة للضحك والسخرية، وكانت تعرف تندرا باسم «الأسوأ من السادسة». لقد حولها بقيادته الفذة الجنرال الأميركي «نورمان شوارزنكوف» إلى قوة محاربة فعالة لدرجة أنها اختيرت بعد ذلك لتنفيذ أكثر المهمات خطورة في منطقة يطلق عليها شبه جزيرة باتانجان، والتي كانت مسرحا للحروب منذ ثلاثين عاما، وتعج بالكثير من الألغام والفخاخ وموضعا للعديد من الحوادث العنيفة المتكررة، ومكان هذه المهمة كان من الخطورة والرعب لدرجة أن وصفه «شوارزنكوف» بأنه مكان فظيع ومميت. ففي 28 ماي 1970 حدثت حادثة خطيرة حيث جرح جندي نتيجة انفجار لغم، فأسرع «شوارزنكوف» وكان حينها برتبة كولونيل إلى موقع الرجل، وبينما كانت الهليكوبتر تنقل الجندي المصاب للعلاج إذ انفجر لغم في جندي آخر فجرحت ساقه جرحا بليغا أخذ على إثره يتقلب على الأرض ويصرخ ويولول من شدة الألم، وحينئذ اكتشف الجميع أن اللغم الأول لم يكن هو الوحيد في المكان، وأنهم في الحقيقة يقفون وسط حقل من الألغام. اعتقد «شوارزنكوف» أن الرجل المصاب من الممكن أن يبقى على قيد الحياة، بل ومن الممكن أن يحتفظ بساقه، ولكن لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا توقف عن التقلب والتمرغ على الأرض، وبالتالي لم يكن أمامه إلا خيار واحد، وهو أن يذهب بنفسه إلى الجندي ويمنعه من الحركة. يقول «شوارزنكوف»: بدأت السير في حقل الألغام ببطء شديد خطوة تلو الأخرى محدقا في الأرض، باحثا عن أي نتوء أو أي شيء بارز في التراب ينبئ بوجود لغم، وكانت ركبتاي ترتعشان لدرجة أنني في كل مرة أخطو فيها خطوة، كان علي أن أجر رجلي وأثبتها بيدي الاثنتين قبل أن أخطو خطوة أخرى... مر الوقت علي كألف سنة حتى وصلت إلى الفتى. وبعد أن وصل «شوارزنكوف» الذي كان يزن حوالي 240 رطلا إلى الجندي الجريح ثبته في الأرض، وهدأ من روعه فكان هذا سببا في إنقاذ حياته. وبمساعدة فريق المهندسين أخرجه «شوارزنكوف» هو وباقي الجنود من حقل الألغام. يمكن أن يصف البعض الخطوة التي أقدم عليها «شوارزنكوف» بأنها بطولة أو شجاعة أو تهور، وهي حقا تشمل كل ذلك، ولكني أعتقد أن أفضل كلمة وأصدق وصف ينطبق عليها هي كلمة «الولاء» ولاء القائد لجنوده لدرجة المغامرة بحياته من أجل إنقاذ حياة جندي واحد منهم. إن الولاء يعني الحب والإخلاص والنصرة التي يبديها الإنسان اتجاه من يدين له بالولاء. والولاء في حقيقته نتيجة ومحصلة لأعمال سابقة؛ قالت العرب: «سيد القوم خادمهم»، وكذلك هو الولاء، فقبل أن يطلب من الناس الإخلاص والتضحية يجب أن يشاهدوا قادتهم أولا في الميدان يتمثلون تلك القيمة السامية، فمن خلال ارتباط القادة قلبيا بأتباعهم والاستماع إلى أصواتهم واحترام كرامتهم والحرص على مصالحهم وبذل المعروف لهم، عندها سيحصدون من الناس ولاء صادقا قاعدته الحب وروحه الحماس والإخلاص وذروة سنامه التضحية. يقول الشاعر: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نموذج وأحسن مثال في ذلك مع أصحابه، حيث كان محبا لهم ومشفقا عطوفا عليهم معطاء جوادا، أجود من الريح المرسلة ودرعا وحاميا لهم وإذا حمي الوطيس لاذوا به وتحصنوا خلفه، فكانت النتيجة أن أعطوه من ثمرة قلوبهم من الولاء ما يسطر بأحرف من نور على صفحات المجد. فعندما قبضت قريش على خبيب بن عدي -وقد كانوا يطلبونه ثأرا لقتلى بدر- وعرضوه على الموت حيث صلبوه على جذوع النخل، ثم أوثقوا أطرافه بالحبال، وبينما الرماة واقفون يشحذون رماحهم وينتظرون الأمر تقدم إليه أبوسفيان وسأله: يا خبيب أتحب أن محمدا مكانك، وأنك سليم معافى في أهلك؟ فأجابه خبيب جوابا يظهر فيه من الولاء لحبيبه ونبيه عليه السلام ما يبهر العقول حيث قال: «والله ما أحب أني في أهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، وأن يصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه الذي هو فيه». عندها قال أبوسفيان: ما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا