


عدد المقالات 336
الشورى مبدأ إسلامي عام، متواشج مع كل شؤون الحياة الإسلامية سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية.. إلخ؛ فهو خلُق وثقافة، وليس قانوناً سياسياً مجرداً؛ يقول القرآن الكريم في الشأن الأُسَري: (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما)، وهذه السعة في مدلول الشورى رافقتها سعة في الوسائل والطرائق، فلم يحدد لنا الإسلام طريقة بعينها لتطبيق هذا المبدأ، وعليه فمن الممكن أن نتخذ في كل ظرف أو حالة أو زمن الوسيلة المناسبة، وبهذا تكون الشورى صالحة لكل زمان ومكان، وقادرة على استيعاب المستجدات والتطورات الحياتية المختلفة. اليوم نواجه تحدياً جاداً في تنزيل الشورى وفق متطلبات العصر وما حمله من مفاهيم وقيم ذات مدلولات محددة ودقيقة، وكذلك ما تميز به من قدرات تواصلية وتقنية، فمثلاً مبدأ «سيادة الأمة» والذي يمثل اليوم أساس النظام السياسي الغربي، بحيث لا يكون الحاكم إلا أجيراً أو موظفاً لدى الأمة، هذا المبدأ تزامن مع نمو ثقافي غربي بمسؤولية الفرد ومكانته، وبمعنى الحرية وتبعاتها، وتزامن كذلك مع ثورة تقنية قادرة على التحقق من إرادة الأمة كلها فرداً فرداً، وفي يوم واحد! ومن يتابع نتائج الانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة الأمريكية يتيقن هذا، هنا بدأ بعض الإسلاميين بصياغة نظرياتهم الجديدة عن الشورى والسياسة بطريقة تقريبية أو توليفية، حتى ظهر مصطلح «الشوقراطية» و»الدينقراطية» تعبيراً صادقاً عن هذا التوليف، وقد انعكس هذا حتى في الأنظمة الداخلية للجماعات الإسلامية، فظهرت مصطلحات (الانتخاب) و(التصويت) لتختفي في المقابل مصطلحات (الأتقى) و(الأعلم)، حتى تساوى العالم بالجاهل أمام آلية التصويت، بينما كان فقهاؤنا ينصون على اشتراط الفقه بل والقدرة على الاجتهاد في الولايات القيادية، وربما سيكون لنا مع هذه النقطة موقف آخر في مقال منفصل، ولكن الذي يعنينا هنا أن هذه الثقافة الجديدة بدأت تحاكم التاريخ الإسلامي وبأثر رجعي، وتحوَّل هذا التاريخ من سِفر مجيد وعنوان للفخر إلى شُبهة وتهمة نخجل منها! وإذا كان التاريخ ركناً أساسياً في الهوية، فإن هويتنا هي الأخرى باتت في مرمى السهام! معاوية بن أبي سفيان هو المتهم الأول في هذه المحاكمة! فهو من غيَّر نظام الحكم من الشورى إلى التوريث، وهذه «البدعة» هي التي استمرَّت عليها الأمة حتى سقوط الخلافة في القرن الماضي، ومعنى هذا أن تاريخنا لا يسلم لنا منه إلا ثلاثون سنة فقط! هكذا صادر معاوية حقَّ الأمة في الشورى، ثم إن الأمة تبعته في هذه الخطيئة حتى بعد وفاته بألف وثلاثمائة سنة! لكن هذه الأمة استيقظت الآن لتكتشف هذه الخطيئة! ثم إن الذين اكتشفوا هذه الحقيقة قد وقعوا بما يشبه التناقض والازدواجية، فهم في الوقت الذي ينتقدون فيه معاوية يمجِّدون عمر بن عبد العزيز «الخليفة الزاهد»، وهو في الحقيقة مخرَج من مخرجات هذا النظام الوراثي –مع ما عرف عنه من ورع متميّز- فقد كان عمر ركناً في هذا النظام، حيث كان والياً للوليد بن عبد الملك على المدينة، وهو الذي أقنع الوليد بتولية أخيه سليمان بن عبد الملك بعد أن كاد الوليد أن يحرمه منها لصالح ولده، فقال له عمر: (يا أمير المؤمنين إنما بايعنا لكما في عقدة واحدة فكيف نخلعه ونتركك؟!) ثم تولى عمر نفسه الخلافة بوصية من سليمان إلا أنه بدأ خلافته بخطبته المشهورة: (قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي مني ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم) فصاح الناس (قد اخترناك يا أمير المؤمنين) ولنا هنا أن نسأل: من هم هؤلاء الناس؟ وما وجه حقهم في تمثيل إرادة الأمة؟ وهم لم يكونوا سوى عدد من المصلين في المسجد الجامع بدمشق! وأخيراً أكمل عمر بن عبد العزيز التزامه بهذا النظام، فعهد بالخلافة من بعده إلى يزيد بن عبد الملك! وأما صلاح الدين الأيوبي فقد استخلف ابنه الملك الظاهر، ومما جاء في وصيته له: «أوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالهم، وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء وأرباب الدولة والأكابر، فما بلغت ما بلغت إلا بمداراة الناس، ولا تحقد على أحد.» وهذا محمد الفاتح هو الآخر قد تولى الحكم وراثة عن أبيه السلطان مراد الثاني، ثم ولَّاه لابنه بايزيد الثاني بوصية طويلة جاء فيها: «وابسط على الرعية حمايتك بدون تمييز، واعمل على نشر الدين الإسلامي؛ فإن هذا واجب الملوك على الأرض» وهذه مجرد نماذج، وإلا فتاريخنا كله تقريبا صُنع بهذا النظام، ومن الملاحظ أن غالب الوصايا التوريثية كانت ممزوجة بشعور الإنسان القريب من ربه، ففيها الوصية بالعدل والتواضع والاعتبار والاستعداد للآخرة، وكثيراً ما كانت هذه الوصايا بمشورة العلماء والصلحاء، وهذا يعني أننا أمام معضلة معقدة تتمثل أولاً بأن الخلفاء المورِّثين والمورَّثين لا يشعرون بالذنب حتى وهم على فراش الموت! والأدهى من هذا القبول العام في الأمة لهذا النظام، وإذا كان هذا النظام بدعة منكرة، فإن الواجب على الأمراء الصالحين أن يغيِّروا هذا المنكر، وواجب على العلماء أن يرفعوا صوتهم، ولا يصح أن نتهم كل هؤلاء والأمة من بعدهم بالتهاون والتواطؤ! وكل الذين ورد عنهم الإنكار على قلتهم جاء إنكارهم منصباً على توريث بعض الحكام لقلة عدلهم وورعهم، ولذلك لم نر هذا الإنكار مثلاً على تولية محمد الفاتح! والخلاصة أن المسألة أعقد بكثير من المقولات المبسطة التي تدور كلها حول اتهام رجل واحد وهو معاوية بن أبي سفيان، فالأمة كلها متهمة بخلفائها وعلمائها! لنبدأ الآن بتفكيك المشهد بطريقة هادئة وبعيدة عن شبهة التحيُّز: يمكن القول: إن النظام الوراثي كان نظاماً عالمياً؛ فالدول الكبرى كفارس والروم وكل الممالك الأخرى من فرنسا إلى الصين لم تعرف غير هذا النظام إلا بحالات استثنائية محدودة، وحتى الجزيرة العربية التي لم تقم فيها دولة قبل الإسلام كان هذا النظام يمثل المرجعية الوحيدة في سلطة القبلية، وهذا يحتاج إلى تفسير علمي وتحليل نفسي اجتماعي دقيق ليس هذا محله. جاء الإسلام في هذه البيئة القبلية والدولية، فلم يضع نظاماً مفصَّلاً للحكم، بل وضع المبادئ العامة كالعدل والشورى، ثم فصَّل في إشارات قوية تتضمن أهمية الاستقرار والوحدة، وحسم باب التنازع ليس على أساس القيم والمبادئ فقط، بل بضبط دائرة التنافس في الأمر بأحكام أكثر تفصيلاً، منها قوله عليه الصلاة والسلام: (الأئمة من قريش) بينما لم يأت نص صريح في القرآن أو السنة يحرم فيه التوريث، بمعنى أن الإسلام لم يصطدم بالعرف السياسي العام في ذلك الوقت، ومن هنا نقرأ في كثير من الحوارات التي دارت بين الصحابة أنفسهم والتي تشير بوضوح إلى مزيج من التأثر الطبيعي بهذه البيئة العامة مع تمسك شديد بمبادئ الإسلام، وهذه المبادئ نفسها لم تكن مفصولة عن البيئة والمستوى الثقافي والتقني لذلك العصر، ولنأخذ مثلاً صورة الشورى وتطبيقاتها في عهد الخلفاء الراشدين، وهو العهد الأفضل والأقرب للورع والتقوى: بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بادر بعض الأصحاب للاجتماع في سقيفة بني ساعدة، وبعد حوار بين المهاجرين والأنصار حُسم الأمر لأبي بكر وتمت البيعة، وهذه السقيفة لم تكن قطعاً لتضم الأمة؛ فالمسلمون في مكة ونجد واليمن وأمصار الإسلام الأخرى لم يحضروا، ولم يرسلوا من يمثلهم، فالقضية كلها كانت تدور حول وجود أغلب المهاجرين والأنصار وهم خيرة الأمة، والأمة لهم تبع، فالشورى حصرت بين هؤلاء السابقين لفضلهم وعلمهم، وهنا نلحظ التوفيق بين الشورى من ناحية وبين أهلية العلماء وأهل الخبرة والسابقة للقيادة من ناحية ثانية، وبين الحفاظ على وحدة الأمة والخوف من حدوث أي فراغ في السلطة من ناحية ثالثة. ثم تولى عمر بن الخطاب الخلافة بعهد من أبي بكر بعد استشارته لكبار المهاجرين والأنصار، فأعلن ذلك قبيل موته: (أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب؛ فاسمعوا له وأطيعوا). ولما طعِن عمر جعل الشورى في ستة من الصحابة ممن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض على أن يختاروا واحداً منهم، وأمهلهم أربعة أيام، فاتفقوا على عثمان، وكانت كلمة عمر المشهورة: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني –يعني أبا بكر- وإن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قتل عثمان اختار الصحابة ممن بقي منهم في المدينة علياً، ثم أرسل علي إلى المسلمين في الأمصار أن يبايعوه كما جرت العادة في الخلفاء الذين قبله. هذه ملامح قوية لصورة الشورى في ذلك العهد المبارك، وهي -كما ترى- ليست الصورة التي يتخيلها الشغوفون اليوم بمبدأ «سيادة الأمة المطلقة» وحق كل فرد فيها بالاختيار، أو المتأثرون بالثقافة الديمقراطية التي تولّدت عبر مراحل متطورة ومتماشية مع ثورة الاتصالات وتقنيات الاستبيان والفرز الحديثة. ومن هذه الصورة التطبيقية للشورى اجتهد الفقهاء في استنباط الأحكام التفصيلية مثل العدد الذين تنعقد بهم البيعة، فمنهم من يراها في أهل الحل والعقد وهم أهل الفضل والعلم كالمهاجرين والأنصار، ومنهم من يراها في من تتحقق بهم الشوكة «القوّة»... إلخ، وهذه هي الطرق المتاحة في ذلك الوقت، أما التصويت الشعبي المباشر على أكثر من مرشح، أو التمثيل «البرلماني» فلم يكن وارداً ولا ممكناً.
هناك من يردد سؤالاً آخر مؤدّاه، ماذا نفعل إذا وجدنا في البخاري ما يعارض القرآن الكريم، أو يعارض العقل؟ وهذا السؤال بدأ يتردد مع هذه الموجة كجزء من حملة التشويه ومحاولة النيل من مكانة البخاري...
المسألة ليست مسألة تقديس للبخاري، ولو كانت المسألة كذلك لاتجه الناس إلى موطّأ الإمام مالك إمام دار الهجرة، أو مسند ابن حنبل إمام أهل السنّة، بل لقدّسوا مرويّات البخاري نفسه في كتبه الأخرى، فالمسألة عند...
إن هذا الاضطراب والتخبّط لدى هؤلاء يكشف أيضاً عن جهل عريض في أصول هذه العلوم ومبادئها الأولية، ولذلك لا ترى هذا الطعن إلا منهم ومن أمثالهم، ممن لا علم لهم بالسنّة وعلومها. إن علماء السنّة...
يتعرض صحيح البخاري هذه الأيام لحملة من التشكيك وإثارة الشبهات، مع حالة من الغموض بالنسبة لدوافعها وغاياتها، والعلاقات التي تجمع بين أصحابها، الذين كأنهم تفرّغوا اليوم أو فُرّغوا لهذه المهمة. هؤلاء بالعموم لم يُعرف عنهم...
لست أهوّن أبداً من مشروعية الغضب في مثل هذه الصدمات، بل أعتبر هذا دليلاً على حياة الأمة واعتزازها بهويتها وبذاتها، وبالعنوان الكبير الذي يجمعها، رغم محاولات تغييبها وتجزئتها، فحينما أرى شاباً عربياً أو تركياً أو...
قبل ثلاثين سنة، استبشر التيار الإسلامي بالانقلاب الذي قاده الرئيس عمر حسن البشير، وتصاعدت الآمال بالنموذج المرتقب للحكم الإسلامي المعاصر، وصار الناس يتداولون الأخبار والقصص عن زهد الرئيس البشير وتواضعه وحكمته، حتى سمعت من أحد...
بقرار من وزارة التعليم في دولة قطر، تشكلت لجنة من الكفاءات العالية لمراجعة وثيقة المعايير المتعلقة بمناهج التربية الإسلامية. وقد جاء القرار بحد ذاته ليعكس رؤية عميقة وواعدة يمكن تلخيصها في الآتي: أولاً: الاهتمام الخاص...
إن الحكم الوراثي السلالي كان جزءاً من ثقافة العرب عموماً، فإذا مات شيخ القبيلة ورثه ابنه، فإن لم يتهيّأ كان أقرب الناس إليه، ودول العالم المجاور للجزيرة -على الأقل- لم تكن تعرف غير هذا، وحينما...
من الغريب جداً أن «المتنورين» بروح العصر وقيمه وثقافته، يجعلون معيار الحكم على تلك المرحلة معياراً مستنداً بالأساس إلى روح «القداسة» أو قداسة «الروح»، فمرة يحدّثونك عن جريمة الخروج على الإمام علي، بمحاكمة أحادية الجانب،...
التاريخ بكل تأكيد لا تصنعه الملائكة، وإنما هو صناعة بشرية بأحداثه ومواقفه ورواياته وتدويناته وتحليلاته واستنتاجاته ومصادره، إلا ما ورد منه بآية قرآنية أو حديث صحيح. هذه المقدمة -التي ينبغي ألا نختلف فيها- تفتح باباً...
تستغل الباطنية اليوم حالة الضعف العام الذي تمر به الأمة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وما يصاحبها من تفكك واضطراب في المنظومة القيمية والعقدية الجامعة، وتراجع مستويات التعليم الديني، وعجز المؤسسات الشرعية والجماعات الإسلامية عن مواجهة التحديات...
الباطنية مذاهب مختلفة، يجمعها اعتقاد باطن للقرآن يخالف ظاهره، وأن هذا الباطن هو مراد الله تعالى، والمقصد من هذا إنما هو تحريف العقيدة وإبطال الشريعة، وإشاعة الشك والفوضى، وتبديل الأحكام الواضحة بمفاهيم عائمة لا تحق...