عدد المقالات 336
كنت أسمع لأحد الدروس الوعظية في برّ الوالدين، وقد رأيت الواعظ كأنّه استرسل في أسلوبه العاطفي، حتى خرج عن مقصود الشرع، كان مثلاً يستنكر بشدّة أن يقول الابن: إن أبي أو أمّي تعيش عندي في البيت، فهو يصحّح له سؤاله قائلاً له: أنت عندها وليست هي عندك، ثم يسترسل بالاستدلال والاستشهاد بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: «أنت ومالك لأبيك». الشيخ لم ينتبه إلى أنه قد خالف في استنكاره صريح قوله تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) فبيت الابن هو بيته وليس بيت أبيه، وهذا حق التملّك الشخصي الذي لا ينبغي أن يوضع في الكفّة الثانية المقابلة لبرّ الوالدين، وهذا هو منهج الإسلام الكامل والشامل والمتوازن (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) فرحمة الولد بوالديه واجب إلى درجة إظهار الذلّ لهما والتواضع والصبر على ما قد يبدر منهما، لكن ليس معنى هذا أن تضيع الحقوق المالية له ولزوجته ولأولاده، ولذلك نرى أن آيات المواريث تقدّم الابن والبنت على الأب والأم، يقول الله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ)، فلو كان مال الرجل لأبيه على الحقيقة فكيف يورّث الإسلام ابن المتوفّى أو بنته أكثر من أبيه؟ جاء في تحفة الأحوذي: «أنه تعالى ورّث الأب من ابنه السدس مع ولد ولده، فلو كان الكل ملكه لم يكن لغيره شيء»، وقال الإمام الشافعي: «فإن الله لما فرض للأب ميراثه من ابنه فجعله كوارث غيره، وقد يكون أنقص حظّاً من كثير من الورثة، دلّ ذلك على أن ابنه مالك للمال دونه»، وقال ابن القيم: «واللام في الحديث ليست للملك قطعاً». إن العلماء الأصوليين يتجّهون دائماً إلى التفصيل الدقيق وجمع الأدلة ومقارنتها واستنباط الأحكام منها، بينما يميل الوعّاظ إلى العموميّات والنصوص المجتزأة والخطاب العاطفي الذي يسير في الغالب باتجاه واحد، وينظر للأمور من نافذة واحدة. إن الواعظ مطلوب منه أن يفكّر بمآلات كلامه، فإطلاق القول بأن مال الولد ملك لأبيه له تداعيات خطيرة قد لا يصل إليها نظر الواعظ، ومن ذلك إثارة أطماع بعض الآباء في الاستحواذ على أموال أولادهم، وقد ينبني على هذا نزاع وخصام، وهو بخلاف مراد الواعظ نفسه، وقد استفتاني أحد الناس بشأن والده الذي يصر على أخذ مال ابنه المجتهد في طلب الرزق، ليوزّعه على إخوته، وقد احتج عليه أبوه بهذا الحديث، فقال لي: لو أطعت أبي فيما يريد لفقدت الرغبة بالعمل، ولقعدت مثل إخوتي، وهذه نقطة أخرى قد تضرب التنمية والإتقان في العمل، وهما قيمتان عظيمتان من قيم الإسلام. إن إعطاء الوالدين حق محو شخصية الأولاد في تخصصهم الدراسي، وفي اختيار أزواجهم وعلاقاتهم ووظائفهم، ثم في الاستحواذ على ممتلكاتهم ليس له صلة بمفهوم برّ الوالدين، بل هو غلوّ يصل إلى التقديس، وله آثاره السلبية على الأسرة وعلى المجتمع وعلى الوالدين أنفسهم.
هناك من يردد سؤالاً آخر مؤدّاه، ماذا نفعل إذا وجدنا في البخاري ما يعارض القرآن الكريم، أو يعارض العقل؟ وهذا السؤال بدأ يتردد مع هذه الموجة كجزء من حملة التشويه ومحاولة النيل من مكانة البخاري...
المسألة ليست مسألة تقديس للبخاري، ولو كانت المسألة كذلك لاتجه الناس إلى موطّأ الإمام مالك إمام دار الهجرة، أو مسند ابن حنبل إمام أهل السنّة، بل لقدّسوا مرويّات البخاري نفسه في كتبه الأخرى، فالمسألة عند...
إن هذا الاضطراب والتخبّط لدى هؤلاء يكشف أيضاً عن جهل عريض في أصول هذه العلوم ومبادئها الأولية، ولذلك لا ترى هذا الطعن إلا منهم ومن أمثالهم، ممن لا علم لهم بالسنّة وعلومها. إن علماء السنّة...
يتعرض صحيح البخاري هذه الأيام لحملة من التشكيك وإثارة الشبهات، مع حالة من الغموض بالنسبة لدوافعها وغاياتها، والعلاقات التي تجمع بين أصحابها، الذين كأنهم تفرّغوا اليوم أو فُرّغوا لهذه المهمة. هؤلاء بالعموم لم يُعرف عنهم...
لست أهوّن أبداً من مشروعية الغضب في مثل هذه الصدمات، بل أعتبر هذا دليلاً على حياة الأمة واعتزازها بهويتها وبذاتها، وبالعنوان الكبير الذي يجمعها، رغم محاولات تغييبها وتجزئتها، فحينما أرى شاباً عربياً أو تركياً أو...
قبل ثلاثين سنة، استبشر التيار الإسلامي بالانقلاب الذي قاده الرئيس عمر حسن البشير، وتصاعدت الآمال بالنموذج المرتقب للحكم الإسلامي المعاصر، وصار الناس يتداولون الأخبار والقصص عن زهد الرئيس البشير وتواضعه وحكمته، حتى سمعت من أحد...
بقرار من وزارة التعليم في دولة قطر، تشكلت لجنة من الكفاءات العالية لمراجعة وثيقة المعايير المتعلقة بمناهج التربية الإسلامية. وقد جاء القرار بحد ذاته ليعكس رؤية عميقة وواعدة يمكن تلخيصها في الآتي: أولاً: الاهتمام الخاص...
إن الحكم الوراثي السلالي كان جزءاً من ثقافة العرب عموماً، فإذا مات شيخ القبيلة ورثه ابنه، فإن لم يتهيّأ كان أقرب الناس إليه، ودول العالم المجاور للجزيرة -على الأقل- لم تكن تعرف غير هذا، وحينما...
من الغريب جداً أن «المتنورين» بروح العصر وقيمه وثقافته، يجعلون معيار الحكم على تلك المرحلة معياراً مستنداً بالأساس إلى روح «القداسة» أو قداسة «الروح»، فمرة يحدّثونك عن جريمة الخروج على الإمام علي، بمحاكمة أحادية الجانب،...
التاريخ بكل تأكيد لا تصنعه الملائكة، وإنما هو صناعة بشرية بأحداثه ومواقفه ورواياته وتدويناته وتحليلاته واستنتاجاته ومصادره، إلا ما ورد منه بآية قرآنية أو حديث صحيح. هذه المقدمة -التي ينبغي ألا نختلف فيها- تفتح باباً...
تستغل الباطنية اليوم حالة الضعف العام الذي تمر به الأمة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وما يصاحبها من تفكك واضطراب في المنظومة القيمية والعقدية الجامعة، وتراجع مستويات التعليم الديني، وعجز المؤسسات الشرعية والجماعات الإسلامية عن مواجهة التحديات...
الباطنية مذاهب مختلفة، يجمعها اعتقاد باطن للقرآن يخالف ظاهره، وأن هذا الباطن هو مراد الله تعالى، والمقصد من هذا إنما هو تحريف العقيدة وإبطال الشريعة، وإشاعة الشك والفوضى، وتبديل الأحكام الواضحة بمفاهيم عائمة لا تحق...