منهج يصنع مواطناً لا مجرد طالب

في أحد لقاءاته مع المعلمين، عبّر الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما عن خلاصة تربوية عميقة بقوله:»المعرفة الجيدة لا تعني شيئًا دون ممارسة جيدة.» هذا التصريح يُعيد تسليط الضوء على واقع التعليم الذي لم يعُد يُقاس بكمّ المعلومات بل بمدى قدرة الطالب على توظيفها في الواقع العملي، وهي الفلسفة الجوهرية التي يُعيدها نظام «التعلم القائم على المهارات» إلى دائرة الاهتمام التربوي. في السياق المحلي، بدأت وزارة التربية والتعليم اتخاذ خطوات جادة، عبر تشكيل لجنة وطنية لمراجعة المناهج وتطويرها، بهدف تعزيز البعد المهاري، وربط التعليم برؤية قطر الوطنية 2030. وبهذا تصبح المناهج جزءًا من منظومة تنموية شاملة تستثمر في الإنسان بوصفه المحرك الأساسي للتحول الاقتصادي والاجتماعي. فالتعلم القائم على المهارات هو التعليم الذي يُمارَس لا يُحفَظ، في جوهره، يرتكز هذا النموذج على الانتقال من التعليم التلقيني إلى التعلم التجريبي، حيث يصبح الطالب فاعلاً في بناء معرفته من خلال تطبيق المشاريع، ألعاب تعليمية، ومواقف محاكاة لمهارات الحياة والعمل. هذا النوع من التعليم لا يُزوّد المتعلم بمعلومات، بل يُزوّده بقدرة على التفكير، الإنجاز، والتكيّف. وفي ظل مساعي الدولة للتحول نحو اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار، لم يعُد التعليم يُقاس بكمية المعلومات المحفوظة، بل بقدرة الطالب على تحويل المفاهيم إلى ممارسات واقعية. فالنماذج التقليدية التي تعتمد على التلقين والاسترجاع المعرفي تُخفق غالبًا في إعداد الطالب للحياة المهنية المعقدة والمتغيرة. أما التعليم القائم على المهارات، فيُعيد تعريف دور الطالب من متلقٍ سلبي إلى مشارك نشط يكتسب مهارات التفكير النقدي، والعمل الجماعي، والتكيف مع البيئات الرقمية، مما يُعزز جاهزيته لسوق العمل. ووفقًا لعدة دراسات تربوية، وعلى رأسها دراسة المجلة العربية للقياس والتقويم، فإن المهارات الأكثر ارتباطًا بالمستقبل تشمل: التفكير النقدي والتحليلي، الإبداع والابتكار، التعلم الذاتي، إدارة الأعمال والمشاريع، استخدام التكنولوجيا والتعليم الرقمي، التواصل والعمل الجماعي، تقييم الأداء الذاتي. وهي مهارات تُعد شرطًا أساسيًا للتفاعل مع سوق العمل الحديث والتقنيات الناشئة. وهي المهارات التي يصنعها هذا التعليم. الدراسات ذاتها تكشف أن ضعف البنية الرقمية، غياب التدريب المستمر، وصعوبة تحويل المناهج إلى محتوى تفاعلي يُعد من أبرز المعوّقات في المنطقة العربية. فالأنظمة التعليمية التقليدية ما تزال تُقاوم التغيير، مما يجعل دمج هذه المهارات مهمةً ملحةً تتطلب سياسات تعليمية جريئة ومتجددة. كما أن كثيرا من الدول خاصة النامية ومنها العربية تواجه تحديا آخر وهو هل تُركّز على تحديث المناهج لتواكب المعايير العالمية؟ أم تُعزّز قدرات وكفاءات المعلمين ليكونوا أكثر فاعلية؟ وأيهما أكثر تأثيرا واستدامة؟ «المعلم الجيد يمكنه أن يُكمّل المناهج غير المكتملة، لكن المناهج الجيدة بدون معلم جيد تصبح بلا قيمة». وجود المعلم في منظومة المناهج المهارية المطوّرة لا يُعد مكمّلًا، المعلم في هذا النموذج ليس «منفذ درس»، بل هو مهندس تعلّم ومُحفّز لاكتساب المهارات التي يُراهن عليها الاقتصاد المعرفي واحتياجات القرن الحادي والعشرين. فلا قيمة لأي تطوير منهجي ما لم يُواكبه تطوير حقيقي في أداء المعلم وتمكينه المهني والمؤسسي. هذا التحول في النظرة إلى التعليم يتطلّب من المناهج أن تُصمَّم كمحركات لتمكين الأداء، لا مجرد أدوات لتقويم المعرفة النظرية، بما يجعل المعلم والمحتوى والبيئة التعليمية عناصر متكاملة في بناء المهارات القابلة للتوظيف والقياس. آخر سطر *التعليم الذي لا يُنتج مهارة، لا يُبنى عليه اقتصاد، ولا تُبنى به أوطان*. @fatma_aldosari