بغداد تقاوم مخرز الموت

لم تكن ليلة عادية، ولن تكون كذلك ونحن نمر عليها كل عام، هي ليلة ألم وحزن وشجون تتوالى، ما زالت كأنها جرت ليلة البارحة، التاسع من أبريل، يلخص قصة تخاذل وجبن وعروبة منقوصة، يلخص صورة الهيمنة والسادية في أبشع صورها، يلخص صورة العم السام الذي طالما صدع الرؤوس بديمقراطيته، ليتبين بعد ذلك، كذبه وزيف ادعاءاته. التاسع من أبريل ليس يوما لاستعادة الذكرى، ذكرى دخول المغول الجدد إلى بغداد وحسب، وإنما هي فرصة للتذكير بأن بغداد لم تسقط، رغم مرور أحد عشر عاما، كافية لإذلال أكبر العواصم وإخضاعها، كانت كافية لتشرذم بلاد وبعثرة ثقافات، غير أن بغداد في ذكرى يومها الحزين ما زالت تقاوم. واهم من يعتقد أن بغداد سقطت في التاسع من أبريل 2003، واهم من لا يرى الأمور إلا بمنظار اللحظة والواقعية الغبية في بعض الأحيان، واهم من يعتقد أن بغداد فقدت بريقها منذ ذلك التاريخ. بغداد ما زالت حية، إنها هناك واقفة صادمة شامخة، تقاوم مخرز الألم، تقاوم محاولات انتشال روحها، تقاوم مغول العصر، لأنها مدينة لا تشبه مدن الدنيا الأخرى، فيوم أن اختارها أبو جعفر المنصور لتكون عاصمة للخلافة الإسلامية، كأنما كان يدرك عظمة هذا المكان، وكأنه كان يرى أن لمدينته الجديدة سرا لا يعرف كنهه إلا من خبر المدن وعرف كوينها. أتذكر جيدا ما جرى في ذلك التاريخ الأسود، يوم أن دخلت قطعان المغول الجدد، لم تكن في الروح أية رهبة من منظرهم العسكري وجحفلهم الكبير، كانت هناك أفواج من الشباب تستعد، استعانت بأسلحتها الخفيفة، رشاشات، عطلت تقدم رتل هنا وآخر هناك، لم يخش أي أحد منهم ذلك الجحفل الكبير، كانوا مؤمنين أنهم أبناء مدينة لا تموت، وإن مرضت. اليوم ونحن نعيش ذكرى دخول مغول العصر إلى بغداد، لا بد من القول إن بغداد ما زالت تقاوم رغم كل جيوش الظلام والبغي والغدر، رغم كل الموت الذي وزع على أبنائها طيلة سنوات طوال، رغم كل المحاولات الرامية لتمزيق نسيج مدينة وجدت لتبقى، وجدت لتحيا، لأنها كانت منبع نور وينبوع حياة. أبشع المحاولات التي تعرضت لها بغداد لتموت عقب احتلالها كانت محاولة تغيير ديمغرافية المدينة، ففي دراسة نشرتها مؤخرا جامعة كولومبيا الأميركية، أظهر إحصاء سكاني لمدينة المنصور ما بين 2003 و2013، أظهر حجم التغيير الديمغرافي الهائل الذي تعرضت له المدينة، فمن مدينة ذات أغلبية سنية، قبل 2003 إلى مدينة شيعية بحلول 2013، في واحدة من أبشع صور التغيير الديمغرافي الذي تشهده مدن في العصر الحديث. ليس هذا فحسب، فالزوار الجدد ممن جاؤوا على ظهر دبابات المحتل، كانوا يكنون عداء رهيبا لهذه المدينة، لدوافع شتى، فعملوا على تشويه وجه المدينة بكل الآليات التي توفرت لهم، فلم يكتفوا بتهجير أهلها الأصليين، وإنما عمدوا أيضا إلى إضفاء طابع همجي على بلد الرشيد، تمثل ذلك من خلال تعيين شخصيات أشبه ما تكون بالشخصيات الكرتونية، لتتربع على إدارة بغداد، وتفشل كما يراد منها، في النهوض ببغداد، بل تحولت عاصمة المنصور المدورة إلى أقذر مدينة في العالم، والمدينة الأسوأ للعيش. نعم هناك حقد دفين على هذه المدينة من ولاتها الجدد، فهم لا ينتمون إليها، لم يعرفوها، ما زالوا يعيشون بعقدة الثأر من بني العباس الذين أشادوها، يعتقدون أن بغداد، مركز الخلافة الإسلامية، كانت امتدادا لمؤامرة يزيد ضد الحسين، أحقاد قديمة ترفض عقلية ولاة بغداد الجدد التخلص منها، لأنهم ببساطة عبارة عن صدى لصوت أبح يأتي من خلف الحدود، يدعي بعائدية بغداد إلى إمبراطورية فارس. بغداد ما زالت تقاوم، أبناؤها الأصلاء يقفون اليوم على أسوارها، دخولها وطرد ولاتها الجدد، سكان المنطقة الخضراء، لن يكون بعيدا بل هو أقرب مما كنا نتصور، حلم كان حتى العام الماضي في مثل هذا التاريخ، بعيد المنال، فولاة بغداد الجدد تفننوا بإذلال المدينة وأهلها، فكان لا بد من رد مزلزل يثأر لكرامة المدينة وأهلها.