


عدد المقالات 103
انتهى الاجتماع بعد ساعة من النقاش البناء، جمعت أوراقي وتحركت نحو الباب، دفعته للأمام فلم ينفتح، جذبته للخلف فرفض أيضا، عدت خطوة للوراء باحثة عن زر جانبي فلم أجد. الممر هادئ وخال من المارة، ثوان وبدأ شعور بالاعتقال يغمرني، تصورت أن الباب لن يفتح، وأني بتّ رهينة للأبد، ليس هناك من يساعدني، ولا أعلم من يملك مفتاح هذا الباب اللعين. قررت الاستسلام قليلا في محاولة لتهدئة نفسي، فإذا بثوار ميدان التحرير بالقاهرة يقفزون إلى رأسي، أراهم وهم يتحركون من الميدان في اتجاه العباسية للوصول إلى مقر المجلس الأعلى للقوات المسلحة، السلطة الحاكمة الحالية في مصر، بينما آخرون كانوا في لقاء مع رئيس الوزراء عصام شرف الأسبوع الماضي، ومن داخل الحكومة كان هناك من سافر إلى بعض دول الجوار للتحاور حول الوضع في مصر، محاولين رسم ملامح المستقبل بمعاونة الجيران الكبار، رأيت أن سكان ميدان التحرير من الثائرين وسكان الحكومة الحاليين وهؤلاء الجالسين في مقاعد المجلس العسكري في حال شبيهة بحالي، معلقين أمام الباب باحثين عن سبيل للخروج، مفتشين عن المفتاح. أدركت في دقائقي القليلة كيف هو شعور السجين خلف جدران من مجهول، في لحظة جنون كدت أعترف لنفسي أني مستعدة لأي شيء يحررني من حبسي المفاجئ. كما فعل تماما سكان ميدان التحرير أمس حين توجهوا وهم العالمون بأن مقاومة لحركتهم ستنتظرهم وربما تكون قاسية، ولم يبالوا، فهم في بحثهم عن مفتاح للخروج من سجن الغبن، مستعدون مثلى لفعل أي شيء حتى ولو جانبته الحكمة أحيانا، لكن الحكمة تبقى مصطلحا أنيقا يستخدمه فقط أصحاب الغرف المكيفة وهؤلاء الذين لم يحترقوا بنيران الانتظار والظلم. كما هو شعور الحبيس حين يجري بحثا عن مخرج يطرق بجنون كافة الأبواب، يطرق الحوائط لعلها ترق وتنفتح، يطرق القلوب لعلها تنشط وتعمل فتشعر بألم السجين، إنهم مثلى يجوبون طرقات المبنى الكبير الغامض الممتلئ بغرف كثيرة لكنها مغلقة، ليس هناك من عنوان على أي غرفة ترشدني لمن هذا الباب؟ أعليَّ أن أطرقه أم سيخرج لي منه الغول الكبير؟ ليس هناك من إشارة تطمئنني أن الطرق ذاته آمن، أنا مثلهم أبحث عن المفتاح، ذهب المتظاهرون للإعلام المصري والدولي، فإذا بكل منهما يتناول ما يجمل وجهه ويضبط حساباته ويعكس رؤيته، ذهبوا للحكومة لعل المفتاح معها فوجدوها حبيسة لقيود من نوع آخر، وتبحث هي الأخرى عن مفتاح، ذهبوا للمجلس العسكري فإذا بالطريق يقطع فلم يعلموا إن كان هو أيضاً يبحث عن مفاتيحه، وهو من يفترض الجميع أن بيده كل المفاتيح، أم أنه يملك المفاتيح لكنه لم يقرر استخدامها بعد، أو لا يعلم كيف يستخدمها. إنهم مثلى متعثرون، كنت ضائعة في أحد مباني الأمم المتحدة الكبيرة الواسعة المليئة بالبشر، لكن رغم ذلك كلما تحدثت يعود صوتي إليّ محملا بالصدى. أخذت أجوب الطرقات الطويلة، رفضت المجازفة بالطرق على الأبواب المغلقة وافترضت أن الأبواب التي تحمل خيرا خلفها ستفتح من دون طرْق، أو ستعطي إشارة أفهمها. حين انغلق الطريق في ميدان العباسية عاد الشباب مرة أخرى إلى ميدانهم، إلى نقطة البداية، تماما مثلما فعلت، فبعد جولات في المبنى الواسع عدت إلى نقطة البداية، أمام الباب انتظره أن يفتح، وحين لم يفتح طرقت عليه يأسا وحنقا آمرة إياه وكأنه سيسمعني «افتح»، وكأني في حكاية «علي بابا والأربعين حرامي»، انفتح الباب، وخلفه كان الموظف الأربعيني السمح، يبتسم بطيبة سائلا: أكنتِ تبحثين عن المفتاح؟ نسيت أن أقول لك إن المفتاح لا يعمل، وعليك أن تطرقي من الداخل لأسمعك فأفتح لك. حين استنشقت هواء الخارج وشعرت بالحرية، اختفى كل الغضب والخوف الذي سكنني طوال العشرين دقيقة السابقة، ابتسمت له وخرجت. كان شباب التحرير يبحثون عن مخرج، كانوا يحاولون الطرق عاليا، فربما هناك أيضاً رجل أو سيدة أربعينية تملك المفتاح فتفتح لهم الباب ليسمعوا إجابات عن أسئلتهم التي دوّت وطارت إلى كل مكان, لكنها على ما يبدو لم تصل بعد إلى مالكي الإجابات. لم تظهر لهم السيدة ولا الرجل الطيب، وظهر بعض رجال الأمن القدامى «المخبرين» المستمتعين بالغموض, وبمصطلح «البلطجية» الذي يمكن أن يضم أي شخص, في أي لحظة, في أي شيء، إنه مصطلح مريب، ككل شيء في أجهزة الأمن، اندسوا وسط المتظاهرين وأخذوا يضربون ويحدثون فوضى، بينما القنابل المسيلة للدموع تسقط على رؤوس المتظاهرين من الخلف، ليسقط المتظاهرون بين فخ «البلطجية» وفخ الغازات الأميركية الممنوعة دوليا. إنها نفس المسرحية التقليدية التي أتقنها النظام السابق والتي حفظناها كما حفظنا المسرحية المصرية الشهيرة «مدرسة المشاغبين» فكلاهما سطحي وساذج. لم يصل الشباب لباب المجلس العسكري, وتفرقوا ليعودوا مرة أخرى إلى ميدان التحرير، متحلقين في وسطه باحثين من جديد عن المفتاح، آملين أن يجدوه وينفتح الباب، كما انفتح الباب لي وخرجت فوجدت أنه لا يوجد شيء في الحياة يستحق أن نحارب من أجله سوى «الحرية».
إنه اللقاء بكل شغفه ولهفته وقوته وطاقته القادرة على إحياء الأمل وبعثه من باطن اليأس. إنه اللقاء.. فلم أجد لفظة أخرى تصف العيون المتلألئة ولا الخطوات المندفعة ولا تلك الحياة التي عادت تجري فكست الوجوه...
سمعت تلك الكلمة للمرة الأولى في منزلنا بينما جارتنا تأخذ قسطا من الراحة لدينا. اعتذرت عن كوب الشاي الذي أعدته أمي قائلة «لازم احضر العشا للاجئين اللي عندي». أخبرتني أمي أن «اللاجئ « مصطلح يطلق...
في الطابق التاسع كنت أسكن. ومن أعلى رأيت أطفال الجيران يرسمون في الشارع الإسفلتي خطا أبيض. ثم احتكروا لأنفسهم المساحة الأكبر وتركوا للطفل الأسمر وأقرانه ما تبقى. والأسمر كان في مثل عمرهم. وكذلك فريقه الذي...
«لقرون طويلة حكيت عني يا شهرزاد, غطى صوتك على صوتي» لكنى الآن وبدون ندم أشيعك إلى مثواك وأعلم أني لن أسبح في الفرح, لكني سأعيش بهجة غسل تراثك. وفى حضرة الحكاية علينا أن نبدأ القصة...
المشهد الأول: كان أن تحدث مرشح الرئاسة عن برنامجه الطموح لقيادة مصر في مرحلة مفصلية, واستعرض مجالات عدة ثم قال «وأما عن المياه فسوف نزيد مياه النيل بالدعاء». المشهد الثاني: صوت جهوري لرئيس الجمهورية آنذاك،...
طرقة واحدة مفاجئة، ثم ضاع الضوء وانسحبت الكهرباء إلى أسلاكها وتركتنا في عتمة قاتمة، بنظرة واحدة على الشارع أدركت أننا نصفان، نصف مضيء ونصف معتم، كان جانبنا صامتا وكأن الحياة قد توقفت عنه، حارسة العقار...
أعادته مرة أخرى إلى الطبق الصغير عقب الرشفة الأخيرة، ثم انتظرتْ دقائق وقَلَبَتْه فسال اللون الداكن برائحته النفاذة وتلون الخزف الأبيض. وأكملت هي حوارها تاركة لي الحيرة من أمر تلك القهوة التي تجمع جدتي بجارتنا...
أيمكن أن يصدق عاقل أن «فارس» حمل عتاده وسلاحه وسافر طويلا لكي يحمي «مالك» الذي لا يعرفه ولا يعرف عنه شيئا. البعض قال لي لا بد أن «فارس» ملاك في جسد بشر. لكن آخرين كانوا...
كان يكفي أن أنظر للسماء لأعلم لما لا يرد شقيقي على الهاتف. متحفزا. مكتملا. باهيا. كان قرص القمر في قلب السماء. متألقا وسط النجوم. مدركا حجم ضوئه وعمق أثره. مختالا بنوره الذي يوقظ كل الصحاري...
في مايو ومنذ ما يزيد على ثلاثة وخمسين عاما, وقبل أن تهبط الأحلام على النائمين انفجر غضب ما من باطن الأرض فقسمها وضرب مبانيها وأهال التراب على ما يزيد على ثلاثة آلاف نسمة. يومها لم...
الشاب ذو الصوت الصادق حاصرني, كما كان لأسئلته تفرد مدهش فلم أملك إلا الانتظار, سار بي خطوات قليلة ثم أشار إلى سمكتين لونهما أزرق يتوسطان لوحة القماش المعلقة, وقال: «أتعرفين لماذا وُلدنا؟». صمت من هول...
أتصدقون أن بين وحشين كبار عاشت الغزالة الصغيرة آمنة حالمة, لكن الأهم أنها عن حق سعيدة, ثم عَنَّ لها أن تجرب الجنون, فإذا بها تعلن بصوت عال أنها في طريقها لتصدير السعادة, ولو لم أكن...