عدد المقالات 103
طرقة واحدة مفاجئة، ثم ضاع الضوء وانسحبت الكهرباء إلى أسلاكها وتركتنا في عتمة قاتمة، بنظرة واحدة على الشارع أدركت أننا نصفان، نصف مضيء ونصف معتم، كان جانبنا صامتا وكأن الحياة قد توقفت عنه، حارسة العقار قالت إن الجانب الأيمن لا يظلم أبدا، وإن انقطاع الكهرباء من نصيبنا نحن فقط سكان الأيسر، ذابت الشموع بعد ساعة من اشتعالها وتدريجيا تهاوى جهاز الإضاءة الاحتياطي واستقر بيننا الظلام، حين انقضى غضبي على الحكومة التي أظلمت منازل مصر ترشيدا للإنفاق، وبلغت مرحلة الاستسلام، أدركت الصمت، وكان الليل قد تمدد وتدريجيا تلاشى الزمن، بل لم يعد هناك مبرر له، وأظنه قد اختبأ بين ثنايا الليل. وقد حدث أن طال الظلام بإحدى المناطق في العالم فانتشر الجهل وانحدرت الثقافة، وأصيبت أوروبا بالانحطاط، ولم يتبق من حضارة الرومان سوى بعض مدارس الأديرة والقصور الملكية، أما العلوم التي نقلت عن اليونانيين فقد اندثرت تقريبًا، وضاع الكثير من المهارات الفنية والتقنية القديمة، وأمست الجماهير في جهلها تتقبل الحكايات الشعبية والشائعات على أنها حقيقة، كان ذلك في الفترة ما بين القرن الخامس الميلادي إلى أواخر القرن العاشر، خمسة قرون أظلمت فيها الأنوار وسقطت أوروبا في الظلام فانشغل الناس عن العمل وانتظموا في مراقبة بعضهم البعض، وكيل الاتهامات وتقسيم البشر إلى فرق ومجموعات، وساد التعصب الديني وامتد القهر الفكري حتى بلغ اعتقال كل من له رأي مخالف أو عقل رافض للإذعان، في ذلك الوقت خرج من لعن الفلسفة الإغريقية والآداب معتبرين إياها وثنية فطمسوها طمسا. في الظلام الساكن بشرفة منزلي أتاني صوت صديقتي الأستاذة الجامعية التي منعت عن العمل لأنها شجعت طلبتها على مناقشة مفهوم الفتنة الطائفية، شعرت بصوتها بعيدا مختنقا آتيا من قرون بعيدة سحيقة، ذكرتني بالحديقة العريقة الكائنة بقلب القاهرة والتي قطعت رؤوس تماثيلها الأثرية لأنها أصنام وحجر، ثم أتت على ذكر الكتاب الذي رفضه الناشر خوفا من العقاب، والمذيع الذي يتلقى خطابات تهديد يوميا، والنساء اللاتي رفعن صورهن من الكتاب المدرسي، صديقتي التي طالتها لعنات ساحرات وطبيبات القرون الوسطى في أوروبا المظلمة ترفض انتظار المقصلة وترفض انقطاع التيار الكهربائي بحجة خفض استهلاك الكهرباء ليستكمل الرئيس نفقات رحلاته ويجمع مالا لازما لتزيين صالات القصر بالزهور الهولاندية. إنها كما المعارضين سليطة اللسان ولم تتعظ ممن أعدمن ومن ألقين بالسجون، تصرخ في وجهي حين أذكرها أن السجون معبأة بالمعارضين وأن الأطفال والنساء لم يعد لهن شفاعة، فالكل في المعتقل سواء، تلك المتهورة تجادلني وأنا أثبت لها أننا في القرن السادس الميلادي حيث يسكن الظلام، لكنها تصر على استخدام معدات وأجهزة غريبة توحي لها أننا في القرن الواحد والعشرين، وأن العلم أتى إلينا بالكهرباء والأدوية والحاسوب والهاتف. الظلام الذي لم يزل يغرق نصف الشارع كان بانتظار النور ليرفع عنا عباءته، ولأن النور باهظ الثمن، وبعيد كما هو ضوء الشمس، فقد عانى سكان أوروبا للخروج من الظلام، وكان أول طريقهم هو الإصلاح الديني الذي حصل في النصف الأول من القرن السادس عشر على يد مارتن لوثر، ثم إعادة أحياء الحركة الإنسانية التي تمثلت في العودة إلى الآداب القديمة، آداب اليونان والرومان وترجمتها، وثالثا أطلقت يد الاكتشافات العلمية الكبرى التي حصلت في ذلك العصر. وقد انعكس كل ذلك على الفكر، وتقدم النقد وتجرأ على تناول أعمال كبار الكتاب والمبدعين، وفي خضم هذا الإبداع والابتكار، ظهر جاليليو (1564 - 1642) الذي شكل الأسس الراسخة للعلم الحديث، أي علم الفيزياء والفلك والرياضيات. الظلام الذي سبق له أن عاش طويلا في أوروبا أراد اختصار الطريق على سكان القرن الجديد باعثا رسالته الموجزة، مؤكداً أن تطوير العلوم والآداب، وحماية المجتمع من الشيوخ المغالين الموالين لمصالح الدنيا هما السبيل لإعادة النور، جمعت النصائح الثلاث وتجاوزت عن الظلام وبعثت بخطاب مختوم بعلم الوصول إلى رئيس الجمهورية: من أهل مصر الكرام، إلى الرئيس الهمام: أبعث إليك بنصائح ثلاث وصلتني من القرون الوسطى. بعد أيام ثلاثة وبينما كنت أجلس بنفس الشرفة بمنزلي عاد إلى الخطاب ممهورا بتوقيع: لم يستدل على العنوان.
إنه اللقاء بكل شغفه ولهفته وقوته وطاقته القادرة على إحياء الأمل وبعثه من باطن اليأس. إنه اللقاء.. فلم أجد لفظة أخرى تصف العيون المتلألئة ولا الخطوات المندفعة ولا تلك الحياة التي عادت تجري فكست الوجوه...
سمعت تلك الكلمة للمرة الأولى في منزلنا بينما جارتنا تأخذ قسطا من الراحة لدينا. اعتذرت عن كوب الشاي الذي أعدته أمي قائلة «لازم احضر العشا للاجئين اللي عندي». أخبرتني أمي أن «اللاجئ « مصطلح يطلق...
في الطابق التاسع كنت أسكن. ومن أعلى رأيت أطفال الجيران يرسمون في الشارع الإسفلتي خطا أبيض. ثم احتكروا لأنفسهم المساحة الأكبر وتركوا للطفل الأسمر وأقرانه ما تبقى. والأسمر كان في مثل عمرهم. وكذلك فريقه الذي...
«لقرون طويلة حكيت عني يا شهرزاد, غطى صوتك على صوتي» لكنى الآن وبدون ندم أشيعك إلى مثواك وأعلم أني لن أسبح في الفرح, لكني سأعيش بهجة غسل تراثك. وفى حضرة الحكاية علينا أن نبدأ القصة...
المشهد الأول: كان أن تحدث مرشح الرئاسة عن برنامجه الطموح لقيادة مصر في مرحلة مفصلية, واستعرض مجالات عدة ثم قال «وأما عن المياه فسوف نزيد مياه النيل بالدعاء». المشهد الثاني: صوت جهوري لرئيس الجمهورية آنذاك،...
أعادته مرة أخرى إلى الطبق الصغير عقب الرشفة الأخيرة، ثم انتظرتْ دقائق وقَلَبَتْه فسال اللون الداكن برائحته النفاذة وتلون الخزف الأبيض. وأكملت هي حوارها تاركة لي الحيرة من أمر تلك القهوة التي تجمع جدتي بجارتنا...
أيمكن أن يصدق عاقل أن «فارس» حمل عتاده وسلاحه وسافر طويلا لكي يحمي «مالك» الذي لا يعرفه ولا يعرف عنه شيئا. البعض قال لي لا بد أن «فارس» ملاك في جسد بشر. لكن آخرين كانوا...
كان يكفي أن أنظر للسماء لأعلم لما لا يرد شقيقي على الهاتف. متحفزا. مكتملا. باهيا. كان قرص القمر في قلب السماء. متألقا وسط النجوم. مدركا حجم ضوئه وعمق أثره. مختالا بنوره الذي يوقظ كل الصحاري...
في مايو ومنذ ما يزيد على ثلاثة وخمسين عاما, وقبل أن تهبط الأحلام على النائمين انفجر غضب ما من باطن الأرض فقسمها وضرب مبانيها وأهال التراب على ما يزيد على ثلاثة آلاف نسمة. يومها لم...
الشاب ذو الصوت الصادق حاصرني, كما كان لأسئلته تفرد مدهش فلم أملك إلا الانتظار, سار بي خطوات قليلة ثم أشار إلى سمكتين لونهما أزرق يتوسطان لوحة القماش المعلقة, وقال: «أتعرفين لماذا وُلدنا؟». صمت من هول...
أتصدقون أن بين وحشين كبار عاشت الغزالة الصغيرة آمنة حالمة, لكن الأهم أنها عن حق سعيدة, ثم عَنَّ لها أن تجرب الجنون, فإذا بها تعلن بصوت عال أنها في طريقها لتصدير السعادة, ولو لم أكن...
(يحكى أن زعيم السلاطين جمع رجال البلاط يسألهم كيف يُسْكت معارضيه بدون بناء مزيد من السجون أو إضافة عنابر جديدة لمصحات الجنون ؟ الرجال المخلصون ذهبوا وعادوا إلى زعيم السلاطين وعرضوا عليه الحل الخلاص.تهلل الزعيم...