سورة الأنفال.. إدارة المكتسبات العسكرية

نتحدث في سلسلة متصلة عن سورة الانفال، حيث بدأت بعرض فكرة توزيع الغنائم لاول مرة منذ إعلان بدء الاعمال العسكرية والتي بدأت مع سرية عبدالله بن جحش وغزوة بدر التي حصل فيها المسلمون على مكاسب مادية، جاءت سورة الانفال لتضع اسس إدارة توزيع المكتسبات، وتطرقت بعدها لنوعية العلاقة بين الله والعباد، ومفهوم الادراك والاستجابة واخيرا ثمن الصمت الجماعي، قال تعالى «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ». تعتبر معركة بدر اول صدام عسكري ينتج عنه غنائم (الأنفال) ولذلك لم تكن تعرف طريقة التوزيع، فصار اختلاف في وجهات النظر بين الصحابة من حيث نصيب كل منهم وفقًا للأدوار العسكرية التي ادوها في المعركة، وهنا تم توضيح ان مسألة إدارة التوزيع ترجع للسلطة (الله ورسوله) واللام في لله ورسوله هي لام اختصاص وليست ملكية، اي انمصدر ادارة توزيع مكتسبات الحروب في حالة التسليم أو الانتصار ترجع للسلطة والدولة (الله ورسوله) وهذه الآية أسست هذا المفهوم وفقا للظروف التي حدثت. وبعد ذلك نأتي لمسألة مهمة وهي جانب الخشوع والتذلل، والتي تعد من اقوى العلاقات بين الله وعباده، قال تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» دائما تكون الشخصيات الخاضعة والهائبة للسلطة هي الاقرب لها من الشخصيات التي تحقق الإنجازات، ولذلك كان ذكر الله ومكانة الله في قلب العبد مقدرة اكثر من الجهاد والإنفاق كما في الحديث الصحيح، فهنا يتضح ان الوجل هو الخوف الناشيء من الهيبة والقدرة والعظمة ويختلف عن الخوف الناشئ من توقع الإيذاء والضرر كالخوف من الأعداء أو الوحوش أو الأمراض، بالاضافة إلى الايمان المباشر دون شك في كل آية منزلة سواء كانت اخبارا بغيب أو إصدار حكم أو تهديد وتحذير حيث لا توجد الشكوك أو الظنون أو التردد فيها، ونتيجة لذلك فإن من يمتلك هذا المستوى من الايمان ينعكس عليه في قضية التوكل بعد الأخذ بالاسباب. هناك تستعرض السورة مفهوم الإدراك والاستجابة، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون * إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) اي تعليمات او قوانين او أوامر مهما كانت درجة استيعاب وفهم الناس لها، فإنها تفتقد الفائدة بعدم تنفيذها، مهما كانت درجة نشرها وتوزيعها وتعليمها للناس لكي (يستوعبوا عملها)، فهنا نجد فجوة بين الإدراك والاستجابة، بسبب عدم جدية التنفيذ والتهاون في شأن هذه التعليمات، فالله تعالى منع عملية الربا وأعلن اشد العقوبات ومع ذلك الناس يمارسونها بشكل طبيعي كانهم (لم يستوعبوا المنع) وهذه الممارسة هي اقرب شيء للنفاق والتعاطي مع الأمور بشكل متناقض، من حيث السماع المستعد للتنفيذ، والممارسة المخالفة لهذا الاستيعاب، والحقيقة ان الفجوة هي بين العقل (مركز الاستيعاب) والقلب (مركز الإرادة)، فاذا وجدنا مجتمعات يكثر فيها الكلام والتوضيحات والنشرات واللقاءات والمؤتمرات ومع ذلك نجد ممارسة الناس تتناقض مع المعلن والمنشور، ندرك ان هناك مشكلة (اسمع واطنش) والتي تعبر عن المجتمعات المستهترة بقوانينها وتشريعاتها وقراراتها. وفي لفتة اخرى تشير السورة الى موضوع ثمن الصمت الجماعي، قال تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب) المسؤولية الاجتماعية هي تداول النصح والتذكير (انكار اللسان) واتخاذ الموقف المضاد (إنكار القلب) ضد اي حركة او توجه او فكر يهدد ثوابت المجتمع الإيمانية وذلك لتحفيز وتنبيه السلطة لأجل اتخاذ ما يلزم (انكار اليد) وهنا نلحظ مستويات الإنكار التي (يستطيعها) المجتمع وتستطيعها الدولة دون تداخل بينهما يشوه ويعقد عملية حل ومواجهة هذا المنكر بكل اشكاله، ولكم ان تتخيلوا (تعطل) ادوات الإنكار في اي مجتمع ماذا سوف يحدث؟ ببساطة سوف يدخل الجميع في نفق مظلم قد لا يرون الضوء في اخره، وهي ذات الحالة التي قد يتعرضون فيها لعذاب الله تعالى والذي قد يأتي بأشكال مختلفة حيث لا يتم فيها التمييز بين الجميع، بسبب تهاون المجتمع في تعزيز ادوات الإنكار.. نسأله العافية والعفو. نرجو القبول من الله لنا ولكم والنفع فيما كتبنا.. ودمتم.