


عدد المقالات 103
إنها المرة الأولى التي أسمع فيها عن مواطن يقاضي حكومته بسبب مرضه النفسي، فلنبدأ الحكاية من البداية، أو فلنتعرف على أصل حكاية المراية. ذهب الأخ «عباس» إلى السيدة الطبيبة اللامعة يشكو من قلة النوم والعصبية وسرعة الغضب، وحين طلبت منه الطبيبة أن يعيد ترتيب مشكلاته فبدأ بسرعة الغضب. جلسات عباس طالت وامتدت مع الطبيبة ليفاجأ بها تقر له بأن مشكلته هي عدم اعترافه بقدراته وعدم علمه بجوانب قوته، في مقابل تعظيم قوة المحيطين به، هاج عباس وماج، حتى إنها صدمته قائلة، لقد اعتدنا على الإنكار. اضطر إلى لملمة عصبيته ليفهم ما المقصود بالإنكار. أوضحت الطبيبة أن المواطن الذي ينشأ في دولة تعتاد إنكار مشكلاتها وأزماتها، وتعيد صياغة الحقائق متجاهلة الفجوات الكبرى التي تعتمل في أرضها، تقدم نموذجا لمواطنيها في التعامل مع الأزمات والمشكلات، فإذا ما مر الإنسان بمشكلة ما أو أزمة فإنه يلتف حولها أولا، ثم يتجاهلها حتى ينساها. لكن لا مشكلات الإنسان ولا الوطن تنسانا، فهي تبقى مستيقظة تنخر في الإنسان أو في الوطن، ليفاجأ أيٌ منهما بأزمة مجتمعية أو سياسية أو نفسية تكاد تفتك به. لقد تجاهل عباس ألمه الذي لحقه إزاء قسوة أبيه، وتجاهل صوته الساخر دوما من تقديراته المدرسية مهما ارتفعت، فلم يكن ذلك الأب يرضى أبدا، كبر عباس ومات الأب ولم يمت الألم، بل ازداد لكنه تغير وتلون ولبس ملامح أخرى، صار عباس الطفل الهادئ رجلا عصبيا غاضبا، يهتز لدى أبسط انتقاد. يأتي النوم لعباس بأبيه مؤنبا أو ساخرا حتى كره أحلامه وصار النوم عبئا عليه. لم يفعل عباس سوى ما فعلته الحكومة التي تجاهلت غضب المواطنين من ارتفاع الأسعار ومن الفساد المستشري في كل شارع وكل مصلحة حكومية، تفشى غضب المواطنين واستشرى، فأصرت الحكومة على التجاهل، بل اختلقت أزمات أخرى كبرى يتوه فيها المواطنون. فغر عباس فمه مندهشا، وسأل: يعني أنا كنت أغش نفسي وأهرب من أصل المشكلة، كما غشتنا الحكومة وهربت من أصل المشكلة؟ كان قد استنتج الرد بمفرده، لكنه فاجأ طبيبته بقراره مقاضاة الحكومة واتهامها بتنشئة المواطنين على الإنكار عوضا عن تدريبهم وتمكينهم من «المواجهة». وفي محاولته لإقناعها بقوة موقفه القانوني، أخذ يعدد حجم الخسائر التي خسرها إزاء «إنكاره» لمشكلته، فالإنكار لا يذهب بالمشكلة بعيدا وفقط، بل يتركها يقظة تكبر وتتزوج وتنجب مشكلات نفسية أخرى، ففقدان الثقة بالنفس يمكن أن ينجب أيضا الشك، كما يمكن أن ينجب العزلة، أو ربما ينجب التعالي، تماما كما ينجب إهمالُ الفقر الجريمةَ أو الإرهاب أو كليهما، يمكن أيضا أن ينجب الفساد والهجرة، وأمراضا لا تحصى. بنفس المنطق، إهمال أي مشكلة ينعشها ويسمح لها بالتزاوج وإنجاب عشرات أو ربما مئات من التشوهات الأخرى التي تصيب الفرد أو الوطن. أعادت الطبيبة عباس إلى ملعبها ثانية حين قالت: سأساعدك بقدر استطاعتي لكسب قضيتك، لكن عليك أولا أن تعرف كيف لا تسقط في «الإنكار» مرة أخرى. الشخص الذي وعى واستيقظ لم يكن مستعدا للعودة إلى السبات مرة أخرى، لقد اختار الطريق الأصعب وقرر فتح الجراح لتطهيرها وإزالة الأورام إن لزم الأمر. اكتشف عباس أن الجراح القديمة لا تداوى مع الوقت، ومهما طال الزمن فهي يجب أن تشج لتنظف، ليعود الإنسان أنقى وأقرب لذاته الراقية التي ولد بها، فقد ولدنا جميعا بشفافية ورقي الملائكة، ومع الأيام أخذت ألوان الحياة الغامقة تلوث رداء الملائكة الأبيض، لنفقد السلام الداخلي ونبقى أسرى لآلام لم تعالج. عاد إليها من غيبته سارحا ورد بإصرار: إذاً لن أُبقي على الألم داخلي وسوف أتخلص منه، سوف أواجه أوجاعي، سوف أواجه نفسي وأتطلع إلى مرآتي الأصدق. لكن للأمانة لا أعرف كيف سيواجه الوطن نفسه وكيف سيغتسل من آلامه الطويلة التي لم تتراكم عشرات السنين مثلي، بل تراكمت ما يزيد على ألفي عام كما في حالة مصر. لم ترد طبيبة عباس، لكنه وهو في الطريق إلى منزله أخذ يفكر: أيمكن للوطن أن يتطهر من آلامه ويعود معافى إن عاد هو معافى، أيمكن لفرد أن يصلح حال وطن بأكمله ويعالج أوجاعه الكبرى المزمنة، أيكون علاج الشخص مقدمة لعلاج الوطن، أم أن الطبيبة كانت تقصد أن الوطن هو عدة أفراد، لقد قالت إننا مرآة للوطن، وهو مرآة لنا، لكن الوطن كبير وأنا شخص واحد.. وأخذ عباس يفكر، ويطرح مدخلا آخر.. علّه يصل لأصل حكاية المراية.
إنه اللقاء بكل شغفه ولهفته وقوته وطاقته القادرة على إحياء الأمل وبعثه من باطن اليأس. إنه اللقاء.. فلم أجد لفظة أخرى تصف العيون المتلألئة ولا الخطوات المندفعة ولا تلك الحياة التي عادت تجري فكست الوجوه...
سمعت تلك الكلمة للمرة الأولى في منزلنا بينما جارتنا تأخذ قسطا من الراحة لدينا. اعتذرت عن كوب الشاي الذي أعدته أمي قائلة «لازم احضر العشا للاجئين اللي عندي». أخبرتني أمي أن «اللاجئ « مصطلح يطلق...
في الطابق التاسع كنت أسكن. ومن أعلى رأيت أطفال الجيران يرسمون في الشارع الإسفلتي خطا أبيض. ثم احتكروا لأنفسهم المساحة الأكبر وتركوا للطفل الأسمر وأقرانه ما تبقى. والأسمر كان في مثل عمرهم. وكذلك فريقه الذي...
«لقرون طويلة حكيت عني يا شهرزاد, غطى صوتك على صوتي» لكنى الآن وبدون ندم أشيعك إلى مثواك وأعلم أني لن أسبح في الفرح, لكني سأعيش بهجة غسل تراثك. وفى حضرة الحكاية علينا أن نبدأ القصة...
المشهد الأول: كان أن تحدث مرشح الرئاسة عن برنامجه الطموح لقيادة مصر في مرحلة مفصلية, واستعرض مجالات عدة ثم قال «وأما عن المياه فسوف نزيد مياه النيل بالدعاء». المشهد الثاني: صوت جهوري لرئيس الجمهورية آنذاك،...
طرقة واحدة مفاجئة، ثم ضاع الضوء وانسحبت الكهرباء إلى أسلاكها وتركتنا في عتمة قاتمة، بنظرة واحدة على الشارع أدركت أننا نصفان، نصف مضيء ونصف معتم، كان جانبنا صامتا وكأن الحياة قد توقفت عنه، حارسة العقار...
أعادته مرة أخرى إلى الطبق الصغير عقب الرشفة الأخيرة، ثم انتظرتْ دقائق وقَلَبَتْه فسال اللون الداكن برائحته النفاذة وتلون الخزف الأبيض. وأكملت هي حوارها تاركة لي الحيرة من أمر تلك القهوة التي تجمع جدتي بجارتنا...
أيمكن أن يصدق عاقل أن «فارس» حمل عتاده وسلاحه وسافر طويلا لكي يحمي «مالك» الذي لا يعرفه ولا يعرف عنه شيئا. البعض قال لي لا بد أن «فارس» ملاك في جسد بشر. لكن آخرين كانوا...
كان يكفي أن أنظر للسماء لأعلم لما لا يرد شقيقي على الهاتف. متحفزا. مكتملا. باهيا. كان قرص القمر في قلب السماء. متألقا وسط النجوم. مدركا حجم ضوئه وعمق أثره. مختالا بنوره الذي يوقظ كل الصحاري...
في مايو ومنذ ما يزيد على ثلاثة وخمسين عاما, وقبل أن تهبط الأحلام على النائمين انفجر غضب ما من باطن الأرض فقسمها وضرب مبانيها وأهال التراب على ما يزيد على ثلاثة آلاف نسمة. يومها لم...
الشاب ذو الصوت الصادق حاصرني, كما كان لأسئلته تفرد مدهش فلم أملك إلا الانتظار, سار بي خطوات قليلة ثم أشار إلى سمكتين لونهما أزرق يتوسطان لوحة القماش المعلقة, وقال: «أتعرفين لماذا وُلدنا؟». صمت من هول...
أتصدقون أن بين وحشين كبار عاشت الغزالة الصغيرة آمنة حالمة, لكن الأهم أنها عن حق سعيدة, ثم عَنَّ لها أن تجرب الجنون, فإذا بها تعلن بصوت عال أنها في طريقها لتصدير السعادة, ولو لم أكن...