


عدد المقالات 103
فجأة وجدتها تقف بيننا.. لم يكن جلبابها الأسود الطويل ولا الطرحة السوداء محكمة الرباط تنسجم مع جمعنا. كنا نهتف عاليا «صوت المرأة ما هو عورة. صوت المرأة ثورة ثورة». كنتٌ قد وضعتُ شعارا مشابها على واجهة قميصي الأبيض وزميلة أخرى لصقته على جبهتها وثالثة حملت الشعار المكبر ورفعته عاليا ليقرأ المارة المترجلون والمارون بسياراتهم التي كانت تبطئ لتتعرف على مظاهرة تعج بالنساء ويشارك بها بعض الرجال. اللافتات الكبيرة كانت تحمل مطلبين لا ثالث لهما الأول مشاركة منصفة للنساء في الدستور المصري قيد الإعداد حاليا، والثاني تجريم التحرش بعدما صارت الشوارع جحيما ينتظر النساء بأقبح ما يمكن أن يأتيه رجل أو شاب مصاب بعطل في ضميره وعقله. المظاهرة النسائية التي وقفت أمام القصر الرئاسي في مساء يوم الخميس الماضي جذبت كاميرات الإعلام وانضم إليها كثير من المنظمات الأهلية وعدد من رموز الأحزاب الليبرالية واليسارية، لكن السيدة ذات الجلباب الأسود لم تكن تعرف أيا من هؤلاء، كانت تسير بخطوات مرتبكة على الرصيف المواجه للقصر حيث تجمعنا، تتخبط فينا بقامتها الضئيلة وجسدها النحيل، وحين انتبهتُ إليها وخرجت بها من وسط الجمع وتحركنا خطوات للأمام وجدت نفسي أمام سيدة بوجه ملائكي وديع، قدرت عمرها بالأربعين، ثم ظننتها في الخمسين، لكنها أيضاً يمكن أن تكون في الثلاثين، هربت السنوات من وجهها، وسكنت صوتها، حين خرجت منها كلمات أتاني صوت معبأ بالعقود والوجع، صوت اعتاد الخوف والاختباء، صوت هذه الظلم. قالت «اسمي مريم» وأنا اسمي «جيهان» ابتسمت للمرة الأولى وقالت: ابنتي اسمها «جيهان» حين حميت ظهرها من صحافي كاد أن يصيبها بكاميراته. احتضنتي شاكرة. ثم ظلت قريبة مني وقلبت كف يدها الأيسر لكي أرى الصليب المدموغ على رسغها. نظرت إلى عيني وسألت: أنت مننا مش كده؟ «أيوه يا ست مريم أنا منكم» هكذا أجبت انتهت المظاهرة التي جمعتني بالسيدة «مريم» الصعيدية المسيحية القادمة من شمال مصر لترفع شكواها للرئيس. وظل سؤالها يطن برأسي «هل أنا منهم؟» شطرني السؤال إلى نصفين ووجدت نفسي في مواجهة مباشرة الساطور. والساطور يشبه السكين لكنه كبير حاد قبيح وصارم، يقطع ولا يصل، يمزق ولا يجمع، يصدأ معدنه القاطع مع الوقت ويصير خشنا، الساطور قسمنا إلي نصفين «هم» و «نحن» نحن الملاك وهم الضيوف، نحن الأقوى وهم الأضعف، نحن الأغلبية وهم الأقلية، نحن الحق وهم الباطل، نحن الأصل وهم لا شيء. الساطور الغليظة التي تقسم الهوية بدأت عملها من زمن بعيد. منذ اكتشفها محتل غاز قدم لنهب ثروات البلاد، واكتشف من بين ما اكتشف ساطورا قاطعا لشق الجموع، والجموع المصرية حدث أن اجتمع لها اللغة والتاريخ والثقافة والنيل والسماء، وحدث أن ترك لها «اخناتون» توحيدا مبكرا، وترك لهم «ماعت» إله الحق والعدالة والنظام تراثا من القوانين للفصل في النزاعات وتثبيت ركائن دولة تحترم كل مواطنيها وتصفهم على قدم المساواة أمام القانون، لكنه ومع ضعف الدولة الفرعونية وتوافد المحتل على مصر تنوع شكل الساطور، فالمحتل الإنجليزي فضل شق الصفوف بتأجيج النزعة الدينية، وفي دول أخرى أجج نفس المحتل النزعة الطائفية وفي نفس منطقتنا العربية مزق الهوية العرقية، أما المحتل الجديد هلامي الملامح أنيق الحضور. فقد عين نوابا عنه في مصر وفي سوريا وفي ليبيا وفي تونس نواب يطرقون أبواب المنازل ثم يفحصون قلوب ساكنيها وضمائرهم ويقدرون حجم إيمانهم بميزان عجيب، وعليه تقسم البلاد بين مؤمنين وكفار من العباد، أما هؤلاء الذين يؤمنون بدين آخر فعليهم أن يحتملوا البقاء في مقعد «الآخر» المنبوذ المقصى في وطنه والغريب على أرضه و «الآخر» بين أهله. وقبل عدة شهور حين زرت «مقدونيا» الإمبراطورية التي قسمت وتمزقت ولم يعد منها سوى ذكريات مسجلة في كتب التاريخ فوجئت بوضع شبيه، لكنه هناك ضد «الروما». والروما هم من نسميهم نحن «بالغجر»، أسقط عليهم المجتمع المقدوني كل إحباطاته ووسمهم بكل النقائص والعيوب. وهم دوما من يشار إليهم بـ «هم»، هم الآخر الذي يجب أن يظل ضعيفا لكي يبقى القوي قويا، ويجب أن يظل منبوذا لكي يقدر سماحة الحاكم حين يلقي إليه بالفتات، ويجب أن يظل مهزوما حتى لا يحلم بالانتصار. «هم» الآخر الذي يجب أن يبقى ساكنا في صفه الأخير، هم أيضاً بعض المسلمين في بورما البوذية، الدولة الصغيرة التي تجاور تايلاند، والتي تضم أقلية مسلمة يبلغ حجمها %10 من مجموع السكان. لم أعرف على وجه التحديد لمن كنت أنتمي حين أجبتها إنني «منهم»، لكني كنت واثقة أنني لا أريد أبداً أن أنتمي لأغلبية تقصي بَشرا وتفحص في هويات قلوبهم وتراقب أصواتهم، لا أريد الانتماء لمن زرع الخوف في صوت السيدة مريم وأوعز لها أن الصليب سينقلها من رقعة الآمنين إلى رقعة المروعين.
إنه اللقاء بكل شغفه ولهفته وقوته وطاقته القادرة على إحياء الأمل وبعثه من باطن اليأس. إنه اللقاء.. فلم أجد لفظة أخرى تصف العيون المتلألئة ولا الخطوات المندفعة ولا تلك الحياة التي عادت تجري فكست الوجوه...
سمعت تلك الكلمة للمرة الأولى في منزلنا بينما جارتنا تأخذ قسطا من الراحة لدينا. اعتذرت عن كوب الشاي الذي أعدته أمي قائلة «لازم احضر العشا للاجئين اللي عندي». أخبرتني أمي أن «اللاجئ « مصطلح يطلق...
في الطابق التاسع كنت أسكن. ومن أعلى رأيت أطفال الجيران يرسمون في الشارع الإسفلتي خطا أبيض. ثم احتكروا لأنفسهم المساحة الأكبر وتركوا للطفل الأسمر وأقرانه ما تبقى. والأسمر كان في مثل عمرهم. وكذلك فريقه الذي...
«لقرون طويلة حكيت عني يا شهرزاد, غطى صوتك على صوتي» لكنى الآن وبدون ندم أشيعك إلى مثواك وأعلم أني لن أسبح في الفرح, لكني سأعيش بهجة غسل تراثك. وفى حضرة الحكاية علينا أن نبدأ القصة...
المشهد الأول: كان أن تحدث مرشح الرئاسة عن برنامجه الطموح لقيادة مصر في مرحلة مفصلية, واستعرض مجالات عدة ثم قال «وأما عن المياه فسوف نزيد مياه النيل بالدعاء». المشهد الثاني: صوت جهوري لرئيس الجمهورية آنذاك،...
طرقة واحدة مفاجئة، ثم ضاع الضوء وانسحبت الكهرباء إلى أسلاكها وتركتنا في عتمة قاتمة، بنظرة واحدة على الشارع أدركت أننا نصفان، نصف مضيء ونصف معتم، كان جانبنا صامتا وكأن الحياة قد توقفت عنه، حارسة العقار...
أعادته مرة أخرى إلى الطبق الصغير عقب الرشفة الأخيرة، ثم انتظرتْ دقائق وقَلَبَتْه فسال اللون الداكن برائحته النفاذة وتلون الخزف الأبيض. وأكملت هي حوارها تاركة لي الحيرة من أمر تلك القهوة التي تجمع جدتي بجارتنا...
أيمكن أن يصدق عاقل أن «فارس» حمل عتاده وسلاحه وسافر طويلا لكي يحمي «مالك» الذي لا يعرفه ولا يعرف عنه شيئا. البعض قال لي لا بد أن «فارس» ملاك في جسد بشر. لكن آخرين كانوا...
كان يكفي أن أنظر للسماء لأعلم لما لا يرد شقيقي على الهاتف. متحفزا. مكتملا. باهيا. كان قرص القمر في قلب السماء. متألقا وسط النجوم. مدركا حجم ضوئه وعمق أثره. مختالا بنوره الذي يوقظ كل الصحاري...
في مايو ومنذ ما يزيد على ثلاثة وخمسين عاما, وقبل أن تهبط الأحلام على النائمين انفجر غضب ما من باطن الأرض فقسمها وضرب مبانيها وأهال التراب على ما يزيد على ثلاثة آلاف نسمة. يومها لم...
الشاب ذو الصوت الصادق حاصرني, كما كان لأسئلته تفرد مدهش فلم أملك إلا الانتظار, سار بي خطوات قليلة ثم أشار إلى سمكتين لونهما أزرق يتوسطان لوحة القماش المعلقة, وقال: «أتعرفين لماذا وُلدنا؟». صمت من هول...
أتصدقون أن بين وحشين كبار عاشت الغزالة الصغيرة آمنة حالمة, لكن الأهم أنها عن حق سعيدة, ثم عَنَّ لها أن تجرب الجنون, فإذا بها تعلن بصوت عال أنها في طريقها لتصدير السعادة, ولو لم أكن...