


عدد المقالات 103
رأيت الناس الملتفين حول فراش والدي يجذبون الغطاء عليه، فيختفي وجهه للأبد ويغيب، لم أفهم ماذا يجري، لكني استسلمت لأوامرهم وخرجت من الغرفة ثم من المنزل لأجلس وحدي على عشب أخضر أراقب الحركة التي لحقها الجنون، وبينما كنت أنظر إلى جسدي الصغير الطفل لاحظت أن شرخا عميقا ظهر بقلبي وشطرني إلى اثنتين، طفلة دون السادسة تلهو بالدمى، وأخرى قفزت على السنين فنضجت. حتى ذلك الوقت لم أكن قد أمسكت بالألم بعد، كان الألم يخرج في صرخة بريئة ما تلبث أن تسكن بفعل قبلة حانية من أمي أو مثير جديد عادة ما يستخدمه الأهل ليلهي الطفل للحظات. ثم ما يلبث الألم ذاته أن ينسحب خجلا. لم يكن ما سكن بجسدي ذلك اليوم ألما. كان شيئا آخر. لم يطل جلوسي على العشب الأخضر. فالعشب ذاته كان أن رحل وانتشر لون برائحة الجفاف. على أني وبعد يوم كامل ذهبت فيه الشمس وعادت، أنجبت ابنتي. واختبرت طعم «الألم». تركني الطبيب أصارع وحدي صراع البقاء. ولأنها عنيدة قوية وذات إرادة حرة. لم تشأ أن تصل إلا في موعدها. في السابعة والنصف صباحا كأنما لتوقظ العالم ليرحب بها. أو لتهديه يوما مشرقا بوصولها. وما إن سقطت عيناي عليها حتى تبخر ذلك الذي اعتصرني. لكن صديقتي التي مرت على مكتب زوجها لتفاجئه بهدية يوم مولده، فأهداها هو صورة لن تنساها ما دامت حية، وسيبقى محفورا في ذاكرتها مظهره العابث وشعرات رأسه المتناثرة في كل اتجاه. يوم رأيتها قبضت على نوع جديد من الألم لم أكن أظنه موجودا إلا في صفحات الكتب. كان الغدر يفتك بها. ودموعها التي رفضت إسعافها تأبى تشييع ألمها وإطلاق صرختها. وأتذكر أن عاما كاملا قد مر قبل أن تستطيع الانفجار باكية. ثم عام آخر قبل أن تبدأ لملمة ما بعثره الألم. لكنها وبعد خمس سنوات أصدرت روايتها الأولى وأهدتها إلي «الألم». كان الإهداء رسالة شكر إلى الألم، فبدونه لم يكن مشروعها قد خرج للنور، وبدونه لم يكن الجرح بقادر على إزالة جزء لحقه العطب. كان الألم هو ما جمع بين أم لشاب ليبي يعالج في مستشفى الدمرداش من إصابة أفقدته الإحساس بقدميه. وأم لطبيبة مصرية شابة حاولت الدفاع عن مريضها الذي اختطف أمام عينيها بينما هي تعد المحلول لحقنه. فإذا برجال يقتحمون العنبر ويختطفون الشاب المكسور الذراع من فراشه ثم يقذفون الطبيبة بحامل المحلول المعدني لتصاب إصابة بالغة بالرأس. وتنتقل بحركة بسيطة من موقع المعالج إلى موقع المريض. ما أذهلني هو حالة الأمهات. لم تبك كلاهما. ولم تندبا الزمن والثورات التي أطاحت مع من أطاحت بأرواح الشباب وبعض من أجسادهم. استقبلت كلتاهما الألم. وقبل أن يتحول إلى ألم. فإذا به طاقة هادرة تعمل بلا توقف لمساعدة المصابين الذين توافدوا على المستشفيات المحيطة بميدان العباسية بالقاهرة. ذلك الميدان الذي امتصت أرصفته دماءا جديدة. وشهدت شوارعه فصلا من فصول البيع والشراء. وفي مستشفى كنيسة قصرالدوبارة بالقاهرة كان أن سأل طفل صديقتي «غادة» في نهاية شهر يناير من العام الماضي، لماذا تبكين؟ فقالت إن خطيبها استشهد في إحدى معارك التحرير. فسألها: هل تبكي لأنه رحل؟ أومأت بالإيجاب. فأضاف: لكني رأيت أمي تبكي أيضا يوم جاءت أختي للحياة.. نعم. فالرحيل هو إعلان لمقدم الميلاد. هكذا أجابت صديقتي..
إنه اللقاء بكل شغفه ولهفته وقوته وطاقته القادرة على إحياء الأمل وبعثه من باطن اليأس. إنه اللقاء.. فلم أجد لفظة أخرى تصف العيون المتلألئة ولا الخطوات المندفعة ولا تلك الحياة التي عادت تجري فكست الوجوه...
سمعت تلك الكلمة للمرة الأولى في منزلنا بينما جارتنا تأخذ قسطا من الراحة لدينا. اعتذرت عن كوب الشاي الذي أعدته أمي قائلة «لازم احضر العشا للاجئين اللي عندي». أخبرتني أمي أن «اللاجئ « مصطلح يطلق...
في الطابق التاسع كنت أسكن. ومن أعلى رأيت أطفال الجيران يرسمون في الشارع الإسفلتي خطا أبيض. ثم احتكروا لأنفسهم المساحة الأكبر وتركوا للطفل الأسمر وأقرانه ما تبقى. والأسمر كان في مثل عمرهم. وكذلك فريقه الذي...
«لقرون طويلة حكيت عني يا شهرزاد, غطى صوتك على صوتي» لكنى الآن وبدون ندم أشيعك إلى مثواك وأعلم أني لن أسبح في الفرح, لكني سأعيش بهجة غسل تراثك. وفى حضرة الحكاية علينا أن نبدأ القصة...
المشهد الأول: كان أن تحدث مرشح الرئاسة عن برنامجه الطموح لقيادة مصر في مرحلة مفصلية, واستعرض مجالات عدة ثم قال «وأما عن المياه فسوف نزيد مياه النيل بالدعاء». المشهد الثاني: صوت جهوري لرئيس الجمهورية آنذاك،...
طرقة واحدة مفاجئة، ثم ضاع الضوء وانسحبت الكهرباء إلى أسلاكها وتركتنا في عتمة قاتمة، بنظرة واحدة على الشارع أدركت أننا نصفان، نصف مضيء ونصف معتم، كان جانبنا صامتا وكأن الحياة قد توقفت عنه، حارسة العقار...
أعادته مرة أخرى إلى الطبق الصغير عقب الرشفة الأخيرة، ثم انتظرتْ دقائق وقَلَبَتْه فسال اللون الداكن برائحته النفاذة وتلون الخزف الأبيض. وأكملت هي حوارها تاركة لي الحيرة من أمر تلك القهوة التي تجمع جدتي بجارتنا...
أيمكن أن يصدق عاقل أن «فارس» حمل عتاده وسلاحه وسافر طويلا لكي يحمي «مالك» الذي لا يعرفه ولا يعرف عنه شيئا. البعض قال لي لا بد أن «فارس» ملاك في جسد بشر. لكن آخرين كانوا...
كان يكفي أن أنظر للسماء لأعلم لما لا يرد شقيقي على الهاتف. متحفزا. مكتملا. باهيا. كان قرص القمر في قلب السماء. متألقا وسط النجوم. مدركا حجم ضوئه وعمق أثره. مختالا بنوره الذي يوقظ كل الصحاري...
في مايو ومنذ ما يزيد على ثلاثة وخمسين عاما, وقبل أن تهبط الأحلام على النائمين انفجر غضب ما من باطن الأرض فقسمها وضرب مبانيها وأهال التراب على ما يزيد على ثلاثة آلاف نسمة. يومها لم...
الشاب ذو الصوت الصادق حاصرني, كما كان لأسئلته تفرد مدهش فلم أملك إلا الانتظار, سار بي خطوات قليلة ثم أشار إلى سمكتين لونهما أزرق يتوسطان لوحة القماش المعلقة, وقال: «أتعرفين لماذا وُلدنا؟». صمت من هول...
أتصدقون أن بين وحشين كبار عاشت الغزالة الصغيرة آمنة حالمة, لكن الأهم أنها عن حق سعيدة, ثم عَنَّ لها أن تجرب الجنون, فإذا بها تعلن بصوت عال أنها في طريقها لتصدير السعادة, ولو لم أكن...