عدد المقالات 7
استخدم نيتشه في كتابه «محاسن التاريخ ومساوئه» مصطلح «مرض التاريخ»، ولو أن أطروحته تلخصت في أن التاريخ أشد الأمراض فتكًا، لاكتفى بمساوئ التاريخ كعنوان لكتابه، والأغرب من ذلك أن الغوص في أعماق هذا الكتاب يكشف أن نيتشه إنما جعل التاريخ مرضًا ضمن شروط محددة، وقبل أن أتطرق إلى ذلك دعونا أولا، نُحدد المصطلحات التي سنتكلم عنها حتى يكون طرحنا طرحًا علميًا وواضحًا. وسأنطلق في ذلك من التساؤل: ماذا نقصد بالتاريخ؟ وما علاقته بالماضي؟ إن التاريخ كما يُعرّفه مارك بلوخ، أحد مؤسسي مدرسة الحوليات في سنة 1929، وهي مدرسة تاريخية، هو «علم التغير والتحول»، ما يعني أنه لا يقتصر فقط على «دراسة الماضي»، وإنما يهتم كذلك بدراسة البشر في الزمن، كما أنه نتاج حركة ذهاب وإياب بين الماضي والحاضر والعكس، عبر المساءلة الدائمة؛ لإعادة بناء الوقائع التاريخية، والاستفادة منها في الحاضر. ويقتضي ذلك التمييز بين نوعين من التاريخ، الأول: تاريخ الذاكرة الجماعية، التي تبدو أسطورية مشوهة تختلط فيها الأزمنة، وتاريخ المؤرخين، الذي يُنتج الخبر التاريخي، والذي به تُصحح أخطاء التاريخ التقليدي. إن عبارة «نسيان الماضي» تدفعنا لطرح سؤال عن المقصود بالماضي الذي يجب أن ننساه، هل هو تاريخ الذاكرة الجماعية الأسطوري المشوه، أم الأخبار التاريخية، أم بُنانا الثقافية والاجتماعية، أم هل هو تُراثنا بما في ذلك ديننا الحنيف؟ إن هذه القضايا شديدة الحساسية، وبالتالي يجب إيضاحها وعدم تركها مبهمة تجري بها الأفكار يُمنة ويسرة، لأن هناك من المثقفين العرب من يرى القطيعة مع التراث؛ بما في ذلك الدين؛ بل جعلوا القطيعة شرطًا لتقدمنا ونهضتنا. ويرى نيتشه في كتابه «محاسن التاريخ ومساوئه»، أن التاريخ ضرورة، ولكنه قد يكون عقبة، وعلاقتنا بالتاريخ هي ما تحدد الدور الذي يجب أن يؤديه التاريخ، فحضوره الطاغي، عند نيتشه، يضر بالحياة، ويُضعف الشخصية الفردية والجماعية، ويؤدي إلى الجمود في الحاضر، وهذا ما عناه بـ «مرض التاريخ»، فالمكانة التي يتوجب أن يتخذها الماضي تجاه الحاضر هي ما تحدد محاسن التاريخ ومساوئه. ولا ينكر نيتشه أهمية التاريخ، إذ يرى أننا بحاجة إليه، ولكن ألا يكون في شكل المتسكع الخامل في حديقة العلم، فهو ضروري للحياة والعمل؛ كي لا نعطي ظهورنا لهما في ارتياح، فندفع بالحياة إلى الجفاف والركود. كما أن علينا معرفة اللحظة التي يجدر بنا النسيان، واللحظة التي عندها يجب التذكر، وذلك حتى لا نتحول إلى حفاري قبور الحاضر، وعلينا أن نكون مرهفي الحس إزاء متى يتوجب علينا أن نرى الأشياء من وجهة نظر تاريخية؟ ومتى يتوجب أن نراها من وجهة نظر لا تاريخية (نسيانية)؟ وكيف أن التاريخي واللاتاريخي ضروريان لصحة الفرد والمجتمع والثقافة؟ ولأن النمط الفكري الشائع في القرن التاسع عشر الميلادي، كان هو نمط القلق واليأس والكآبة، فلم يكن من المستغرب أن تظهر نماذج شاذة من المفكرين، يدعون إلى الفردية المطلقة، أو الفوضوية، أو القومية ضيقة الأفق، فمن الواضح أن تحولاً ضمنيًا قد طرأ على حياة الإنسان الأوروبي حينئذ، ولكنه بدا تحولاً للأسوأ، ولذا خرج في تلك الفترة فلاسفة متشائمون، أمثال: شوبنهاور، والذي لقب بـ «فيلسوف التشاؤم»، صاحب التأثير في فكر «نيتشه»، ولهذا ليس بالضرورة أن يكون ما طرحه نيتشه صوابًا، فهو مجرد رأي مُفكر قد يُصيب وقد يخطئ. ولا أدل على ذلك من طرحه لبعض الأفكار، التي لم تَصدُق، كفكرة «الإنسان الأرقى»، الذي تنبأ بظهوره من الطبقة الأرستقراطية، أو طبقة الأسياد كما أطلق عليها، إلا أنه ظهر ممن كان يُعدهم عبيدًا. إن رجوعنا إلى القرن التاسع عشر، أي نيتشه، لنقرر أن التاريخ مرض، أليس رجوعًا للتاريخ!. عزيزي القارئ؛ أرجو أن نكون جميعًا على اقتناع بأن مشكلتنا ليست في التاريخ، وإنما في الكيفية التي نتعاطى بها مع التاريخ، أو بعبارة أخرى كيف نُوظف التاريخ. ويفرض ذلك علينًا سؤالًا: هل تناسى الغرب ماضيهم؟ فالتاريخ المتخيل هو ما يخترعه الغرب، ففي كتاب «اختراع التقاليد» تقول الثقافة الأوروبية شيئًا آخر، يوجب عدم نسيان التاريخ. إن الأوروبيين يدّعون اليوم أن حضارتهم ترجع إلى الإغريق والرومان، وأنهم امتداد لها، واقرأ إن شئت كتاب هنتنغتون «صدام الحضارات». كما أنهم يرون أن الحضارة اليونانية، التي يرجعون لها، هي معجزة إنسانية، أي نواة انطلاق الحضارة الإنسانية. إن هذا الادعاء دفع مارتن برنال لأن يؤلف كتابه «أثينا السوداء» ليرد عليه؛ بل ويدلل على أن الفضل في نهوض حضارة الإغريق هي الحضارة المصرية القديمة، ولهذا كان عنوان الكتاب «أثينا السوداء» معبرًا عن دور أفريقيا السوداء وحضارتها، وكان برنال يريد أن يصنع ماضيا لليهود، بني جلدته، حيث ألمح إلى أنهم بناة الأهرام، وكأنه أراد أن يقول إن اليهود هم بناة الحضارة الإنسانية، رغم أن النصوص التاريخية والآثارية تؤكد كذب ادعائه. وختامًا، لعلنا كما يقول الكثير من المفكرين المحدثين: «إن عهود النكبات في التاريخ الإنساني كانت دائمًا حافزة إلى التفكير في الماضي، وفي المصير، ومثيرة للاهتمام في تفسير التاريخ وتعليله». يقول قسطنطين زريق في كتابه «نحن والتاريخ»: «إن الإنسان الذي يعيش الحياة الحاضرة لا يمكنه أن يُشيح بوجهه عن الماضي...، وهكذا لابد لنا كأفراد وكأمة، إذا أردنا أن نحيا كما هو واجب علينا...، أن نجابه التاريخ».
انتقال الأفكار والنظريات والمصطلحات من حضارة أو ثقافة إلى أخرى، أمر ضروري لتغذية الحياة الثقافية والفكرية. وقد تنبه الخوارزمي (781-850م) لأهمية الوعي بفهم أي ظاهرة معرفية، إذ رأى أنها تمثل مفاتيح العلم، لأنها «مداخل ضرورية،...
الحداثة مفردة نشأت في الفكر الغربي، وهي كما يقول المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف (1924-2014) متنافية مع العتيق، وأن الوعي بمفهوم الحداثة نشأ من شعور واعٍ بالقطيعة مع الماضي. وتَصدّر هذا المفهوم المشهد في الفكر الأوروبي...
يذكر المؤرخ برنارد لويس في كتابه «التاريخ، استذكاره، استعادته، واختلاقه»، أن الكثير من الحكومات ترجع إلى ماضٍ ضارب في القدم لاستذكار حادثة أو استعادتها أو اختلاقها من أجل إيجاد وعي ذاتي لشعوبها، وفق ما يقتضيه...
يلاحظ أن الكثير من الأفكار في ظل الانفتاح الثقافي، دخلت على المجتمعات العربية والإسلامية، عبر وسائل الإعلام الحديثة، ومواقع التواصل الاجتماعي، وهذه الأفكار لا تزال تتوافد، بغض النظر عن قبول هذه المجتمعات لها أو رفضها....
بينما كنت أقرأ في «كتاب السلطة والمجتمع والعمل السياسي العربي أواخر العهد العثماني»، الذي طبع مرتين: الأولى في بيروت سنة 1988، والثانية سنة 2017، للدكتور وجيه كوثراني، الحائز على الدكتوراه في التاريخ من جامعة السوربون...
نحتفي ونحتفل هذه الأيام باليوم الوطني لوطننا؛ وإذا كان هذا الاحتفال فرصة لنهنئ أنفسنا بميلاد الدولة، فإنه يتوجب أن أذكر نفسي أولا، وأذكركم بما تحمله هذه المناسبة من معانٍ جليلة يجب ألا ننساها أو نتناساها؛...