

عدد المقالات 7
بينما كنت أقرأ في «كتاب السلطة والمجتمع والعمل السياسي العربي أواخر العهد العثماني»، الذي طبع مرتين: الأولى في بيروت سنة 1988، والثانية سنة 2017، للدكتور وجيه كوثراني، الحائز على الدكتوراه في التاريخ من جامعة السوربون بباريس، وأستاذ سابق بالجامعة اللبنانية (1975-2005)، والذي عُرف بمنهجه في المتابعة والنقد لما كُتب في التاريخ، وعدم الأخذ بما ورد كمسلمات من دون التدقيق والتمحيص، أكثر من اهتمامه بالطرائق الأكاديمية المنهجية. استوقفتني عبارة «الديانة الصغيرة»، التي أوردها أثناء استعراضه لتقرير دوبوسك، أحد مستشاري وزارة الخارجية الفرنسية، سنة 1913، والذي كُلّف بتحليل أهمية الحركة العربية في «سوريا»، وإبداء الرأي حول أفضل الطرق لتحقيق أهداف بلاده ومطامعها حينئذ. يقول دوبوسك: «إن العرب لم يصلوا بعد إلى تلك الدرجة من الترقي، حيث العواطف والطموحات تذوب في طموح واحد مشترك هو خلاص البلد. إن ثمة كبرياء هائلة جدًا هي الخط المميز للأخلاق تدفع كل واحد منهم لاعتبار نفسه متفوقًا على أقرانه، وتجعل كل تحرك مشترك أمرًا مستحيلًا، وإلى جانب الكبرياء الفردية (يتضح مما ذكره أنه يقصد التكبر)، هناك عند العرب كبرياء جماعية، وكبرياء العائلة والقبيلة، أو ما يُمكن تسميته الديانة الصغيرة» (ص 206). إن ما جاء في تقرير دوبوسك المطول ينبئ، في حقيقة الأمر، عن عُمق في تحليل النفسية العربية، وفهم واضح لرغباتها الاجتماعية، وكيف أن ما قد يعتبره البعض ميزة، خاصة عندما تختلط المفاهيم في أذهاننا بين ما هو «عزة نفس»، وبين ما هو «ترفع على الغير»، ينظر له أعداؤنا كمنطلق لتحقيق أهدافهم. إن تسمية هذا المستشار الفرنسي لهذا الداء العضال بالديانة الصغيرة فيه دلالة على شدة تأثير هذه الصفة، وتحكمها في سلوك المجتمعات العربية بشكلٍ عام، ونحن نجده في مجتمعاتنا الخليجية أشد تأثيرًا على مستوى الفرد والجماعة، كما أن هذه التسمية لم تأت من فراغ، ففي نفس تلك الفترة، يقول القنصل الفرنسي في دمشق: «يتزايد اعتقادي بأن الدين في الشرق هو أساس كل شيء، وفي رأيي ينبغي ألا يغيب الدين عن بالنا أبدًا عندما نحكم على الحوادث والمشاعر والتيارات، وبالطبع لابد أن نأخذ بعين الاعتبار هنا كما في كل مكان آخر المصالح المادية، لكننا مضطرون في آخر التحليل إلى الاعتراف بأن الدين يتدخل دائمًا، ويبدو أن المحافظ الأكثر تخلفا، والثوري الأكثر تقدمًا، والموظف المدني أو العسكري، والذي درس في باريس، كما الذي تثقف في برلين، يتصرفون جميعهم، سواء أكانو مؤمنين، أم أحرار التفكير، كما لم يعرفوا قط أي شيء آخر غير الكتب المنزلة». إذن لهذه الديانة الصغيرة تأثير يشابه تأثير الدين الذي قال عنه: إنه يتدخل في كل شيء فلا عجب أن أسماها بالديانة؛ ونحن بدورنا نرى أنها قانون يتحكم في بعض المواقف والقرارات في مجتمعاتنا العربية. إن المتأمل في هذه العبارات يجد أن الكثير من القرارات غير المبررة، التي تتخذ في كثير من المواقف، يمكن لقانون «الديانة الصغيرة» أن يعطي تفسيرًا لها. وأدعو القارئ إلى إعادة قراءة مشهد حرب تحرير الكويت في عام 1991، وإعادة النظر في المواقف المتباينة للدول العربية ما بين مؤيد ومعارض، وكذلك إعادة النظر في قراءة مشهد الأزمة الخليجية 2017، ومواقف الدول الخليجية والعربية منها، وسأترك للقارئ مساحة للتفكير والنظر فيما تم طرحه أعلاه. إن الديانة الصغيرة لا تسمح لصاحبها بالاعتراف بالخطأ، فضلا عن التراجع في قرار تم اتخاذه، وتجعل ذوبان الطموحات في طموح واحد مشترك يصب في المصلحة الجمعية أمرًا لا أقول مستحيلًا، ولكنه غاية في الصعوبة. فالديانة الصغيرة لا تسمح بنقد ذواتنا، وبالتالي تُضفي نوعًا من الجمود على تفكيرنا، وتبني حصونا منيعة، تقف حائلًا أمام القرارات والمواقف التي يصعب تغييرها أو مناقشتها، وابداء الرأي فيها، وفي المقابل نرى أن الحضارة الغربية قد استفادت من تجربتها التاريخية في تجاوز أزماتها بالنقد الذاتي، وأحسب أن هذا البعد غائب في حالة المجتمعات العربية الراهنة، أي البعد النقدي للذات. إن هذا الكبر الهائل جدًا جدًا، وغير المسؤول يدفع صاحبه، كما ذكرنا، لاعتبار نفسه متفوقًا على أقرانه، لا سبيل للحوار معه، ولا سبيل لأي عمل مشترك؛ إلا تحت عباءته وأوامره وسيادته. لقد كنا نسمع عن عصبية قبلية متغلبة عند ابن خلدون، أما اليوم فلدينا كبر فردي متغلّب، يمكن وصفه كأعلى مرتبة ممكن أن تصل لها العصبية المتغلبة، أو يمكن أن نطلق عليها، «الاستبداد بالرأي». إننا نجد أنفسنا بعد ابن خلدون بحوالي سبعة قرون قد ضاقت علينا مساحة الحوار، وبدلًا من أن نتحد ونتكاتف في ظل ظروف راهنة سببًا في تخطف الدول من حولنا، ونتمسك بآرائنا، كلٌ مدفوع بديانته الصغيرة، إلا من رحم الله. وأختم بموقف حدث في غزوة بدر، لعلنا نستلهم منه دروس وعبر التاريخ، وذلك عندما أتى الحَباب بن المنذر لرسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) فقال: «يا رسول الله أهذا المنزل أنزلكَ الله إياه فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟»، فقال له (صلى الله عليه وسلم): «بل هو الرأي والحرب والمكيدة». فقال الحباب: «يا رسول الله، هذا ليس بمنزل حرب! فامضِ بالناس حتى تبلغَ آبار بدر، فاجعلها خلفكَ، ثم نُقاتل القوم، فنشربُ ولا يشربون»، فقال له (صلى الله عليه وسلم): «نِعْمَ الرأي»، ونزل على رأيه، وهو القائد والرسول (صلى الله عليه وسلم).
انتقال الأفكار والنظريات والمصطلحات من حضارة أو ثقافة إلى أخرى، أمر ضروري لتغذية الحياة الثقافية والفكرية. وقد تنبه الخوارزمي (781-850م) لأهمية الوعي بفهم أي ظاهرة معرفية، إذ رأى أنها تمثل مفاتيح العلم، لأنها «مداخل ضرورية،...
الحداثة مفردة نشأت في الفكر الغربي، وهي كما يقول المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف (1924-2014) متنافية مع العتيق، وأن الوعي بمفهوم الحداثة نشأ من شعور واعٍ بالقطيعة مع الماضي. وتَصدّر هذا المفهوم المشهد في الفكر الأوروبي...
يذكر المؤرخ برنارد لويس في كتابه «التاريخ، استذكاره، استعادته، واختلاقه»، أن الكثير من الحكومات ترجع إلى ماضٍ ضارب في القدم لاستذكار حادثة أو استعادتها أو اختلاقها من أجل إيجاد وعي ذاتي لشعوبها، وفق ما يقتضيه...
يلاحظ أن الكثير من الأفكار في ظل الانفتاح الثقافي، دخلت على المجتمعات العربية والإسلامية، عبر وسائل الإعلام الحديثة، ومواقع التواصل الاجتماعي، وهذه الأفكار لا تزال تتوافد، بغض النظر عن قبول هذه المجتمعات لها أو رفضها....
استخدم نيتشه في كتابه «محاسن التاريخ ومساوئه» مصطلح «مرض التاريخ»، ولو أن أطروحته تلخصت في أن التاريخ أشد الأمراض فتكًا، لاكتفى بمساوئ التاريخ كعنوان لكتابه، والأغرب من ذلك أن الغوص في أعماق هذا الكتاب يكشف...
نحتفي ونحتفل هذه الأيام باليوم الوطني لوطننا؛ وإذا كان هذا الاحتفال فرصة لنهنئ أنفسنا بميلاد الدولة، فإنه يتوجب أن أذكر نفسي أولا، وأذكركم بما تحمله هذه المناسبة من معانٍ جليلة يجب ألا ننساها أو نتناساها؛...