


عدد المقالات 103
بدأت أول الأمر بابتلاع قرص واحد، حصلت بموجبه على ساعتين من النوم الهادئ. ثم مر بعض الوقت قبل أن تحسم أمرها بأخذ المزيد لتصل في نهاية الأمر إلى ابتلاع ثمانية أقراص كل يوم قبل التاسعة مساء موعد نومها اليومي. كنت أجوب شوارع دمشق حين تذكرتها وأنا أسير داخل «سوق الحميدية الشهيرة» لأجد نفسي محاطة برائحة من التاريخ وبقايا جدران كانت جزءا من «معبد جوبتير» الذي اختفى بأكمله ولم يبق ما يدل عليه سوى بضعة أعمدة تطل بوقار على المسجد الأموي. السوق الأشهر في المنطقة العربية المغطية بأكملها حامية مرتاديها من الأمطار في الشتاء ومن حرارة الشمس في الصيف، كانت نائمة أو منومة كما كانت خالتي دوما. يتحرك البشر فيها بتثاقل وخدر.. كان العام 2009. وقت أن كانت كل الأسواق نائمة، أو جعلتنا نعتقد أنها نائمة. قال الطبيب لخالتي إن أمامها أربعة مجموعات من المنومات، تسمى المجموعة الأولى بينزودايازيبين «benzodiazepine»‘ وهذا النوع يسبب شعورا بالنعاس ما بعد الاستيقاظ. وفي حال استمرار استخدامه فإن الجسم يمكن أن يصل لحد الاعتياد. الأمر الذي يعني أن التوقف المفاجئ عن تناوله يمكن أن يسبب تشويشا وأرقا وربما اضطرابات نفسية وذهنية. ومنومات تلك المجموعة ذات مفعول سريع في جلب النوم، أي خلال نصف ساعة، ويستمر تأثيرها لحوالي 8 ساعات. ثم عرض عليها المجموعة الثانية وهي مجموعة «زد» وسميت « زدْ» لأن تلك المجموعة تبدأ بحرف «Z» باللغة الإنجليزية وأدوية تلك المجموعة لها مفعول زمني قصير مقارنة بالأولى. وتترك أثرا كذلك في الصباح على من تناولها. أما المجموعة الثالثة فهي مضادات «الهيستامين» وهي أدوية تستخدم في معالجة حالات الحساسية، إلا أن لها تأثيرات جانبية تتمثل في النعاس والنوم. وهذه التأثيرات الجانبية تُغري البعض لاستخدام «مُضادات الهيستامين» كحبوب منومة. وإشكاليات استخدامها لجلب النوم كثيرة، أهمها أنها تفقد مفعولها على النوم بعد تناولها باستمرار لبضعة أيام. لا ترى الهيئات الصحية العالمية في بريطانيا والولايات المتحدة وغيرهما، المعنية بالنوم ومعالجة اضطراباته، صحة النصيحة باللجوء إلى «مضادات الهيستامين» لعلاج الأرق. أما المجموعة الرابعة فهي «ميلاتونين» وينتج الجسم هذا الهرمون لبناء تكرار يومي في الدماغ. ولأن البدء في الشعور بالنعاس، من بعد مغيب الشمس وزوال ضوء النهار، يعتمد في الحالات الطبيعية على إنتاج هذا الهرمون، فقد اقترح العلماء استخدام حبوب تحتوي على هذا الهرمون في معالجة حالات الأرق. ولكن النتائج بقيت غير مشجعة. بل ثمة مؤشرات جادة على تأثيرات عكسية وسلبية على نوم الإنسان بتناول تلك الحبوب. ورغم مدح بعض المصادر الطبية له، فإن إدارة الغذاء والدواء الأميركية لا تزال تضعه ضمن قائمة الأدوية المنومة ذات التأثيرات غير المعتادة على سلوكيات متناوليه. لكن الطبيب الذي عالج خالتي أكد لها أن للأرق أسبابا يحملها القلب والروح، وأن عليها أن تفك طلاسم روحها لتعرف لماذا يجافيها النوم؟ اقتادها بذكاء في متاهات حياتها حتى جمع العلل وعرف لماذا تصارع النوع في الليل. وحينما اكتشفت خريطتها عادت للنوم من دون الأقراص. بل صارت توزع النصائح والمساعدات على من حولها. ولأنها كانت تعلم أن النوم ليس بغيبوبة عن الوعي، بل هو مرحلة حياتية يومية ينشط فيها الجسم، فلم تتوقف عن محاولة النوم منها انتبهت للمرة الأولى أن النوم ليس بفعل سلبي، وأنه يمكن أن يكون بنَّاءً. بل إنها من عرفتني أن النوم يَلدُ الاكتشاف. فحين نستيقظ صباحا ممسكين ببعض من براءة الطفولة نصير أقرب ما يمكن من الاكتشاف. اكتشاف الفجوات التي جعلتنا نعاني. والمسارات المنفتحة التي لم نرها. اكتشاف البقع السوداء على وجه السياسة. واكتشاف أن التعلم ممتع حتى لو كان الثمن دموعا أو دماء. حينما استيقظتُ يوما في غرفة الإفاقة وكنت فاقدة الوعي بإرادة الطبيب ومشرطه. وجدتني أعود للحياة مسكونة بطاقة تكفي لبناء هرم جديد واكتشفت للمرة الأولى أن الضعف زائر طارئ وأني قوية كالنهار. وعندما أفاقت صديقتي من طعنة حب قاسية تركتها نائمة سنوات. قفزتْ فرحا لتلك الحكمة وهذا الوعي الذي انهمر على رأسها فجأة. فصارت بالرغم عنها «ناضجة». لم يكن نوم صديقتي مسائيا. بل كان نوما طويلا عاشت به تخطو بأعين مفتوحة لتظنها مستيقظة وهي غائبة في السذاجة وفي الأوهام. تماما كما كانت شعوب سوريا ومصر وليبيا وتونس وكل دول المنطقة غائبة نائمة. لكنها حين استيقظت تيقن الجميع أن عمليات حيوية كثيرة كانت تتم في أثناء النوم. وأن صمتها كان نوما ولم يكن موتا. وإلا فما معنى تلك الانتفاضات المتتالية. فشباب ليبيا ينتفضون على الماضي ويبنون الأحزاب وشباب مصر يرسمون ويرقصون ويجتمعون في شوارع مصر التي كانت مسكونة بالخوف. وشباب تونس يخطط بهدوء وتريث ولا يهاب هيمنة الإسلاميين. فقد امتلك الشباب الشعلة ولن يتركوها تنطفئ. عرفت مؤخرا أن النعاس الغالب في سوق الحميدية كان حلما يتشكل، ووطنا يبحث عن مخرج من سطوة نظام يمتد تاريخه لأكثر من 42 عاما. ومع يقظة الشعب السوري تسقط الدماء غزيرة وترتفع الآهات لتخلع السماء ألما. وما يمكن لبشر تحمل هذا الألم، إلا لو وعى قيمة وروعة اكتشافه. وهو هنا يكتشف معنى الحرية وقيمة الكرامة.
إنه اللقاء بكل شغفه ولهفته وقوته وطاقته القادرة على إحياء الأمل وبعثه من باطن اليأس. إنه اللقاء.. فلم أجد لفظة أخرى تصف العيون المتلألئة ولا الخطوات المندفعة ولا تلك الحياة التي عادت تجري فكست الوجوه...
سمعت تلك الكلمة للمرة الأولى في منزلنا بينما جارتنا تأخذ قسطا من الراحة لدينا. اعتذرت عن كوب الشاي الذي أعدته أمي قائلة «لازم احضر العشا للاجئين اللي عندي». أخبرتني أمي أن «اللاجئ « مصطلح يطلق...
في الطابق التاسع كنت أسكن. ومن أعلى رأيت أطفال الجيران يرسمون في الشارع الإسفلتي خطا أبيض. ثم احتكروا لأنفسهم المساحة الأكبر وتركوا للطفل الأسمر وأقرانه ما تبقى. والأسمر كان في مثل عمرهم. وكذلك فريقه الذي...
«لقرون طويلة حكيت عني يا شهرزاد, غطى صوتك على صوتي» لكنى الآن وبدون ندم أشيعك إلى مثواك وأعلم أني لن أسبح في الفرح, لكني سأعيش بهجة غسل تراثك. وفى حضرة الحكاية علينا أن نبدأ القصة...
المشهد الأول: كان أن تحدث مرشح الرئاسة عن برنامجه الطموح لقيادة مصر في مرحلة مفصلية, واستعرض مجالات عدة ثم قال «وأما عن المياه فسوف نزيد مياه النيل بالدعاء». المشهد الثاني: صوت جهوري لرئيس الجمهورية آنذاك،...
طرقة واحدة مفاجئة، ثم ضاع الضوء وانسحبت الكهرباء إلى أسلاكها وتركتنا في عتمة قاتمة، بنظرة واحدة على الشارع أدركت أننا نصفان، نصف مضيء ونصف معتم، كان جانبنا صامتا وكأن الحياة قد توقفت عنه، حارسة العقار...
أعادته مرة أخرى إلى الطبق الصغير عقب الرشفة الأخيرة، ثم انتظرتْ دقائق وقَلَبَتْه فسال اللون الداكن برائحته النفاذة وتلون الخزف الأبيض. وأكملت هي حوارها تاركة لي الحيرة من أمر تلك القهوة التي تجمع جدتي بجارتنا...
أيمكن أن يصدق عاقل أن «فارس» حمل عتاده وسلاحه وسافر طويلا لكي يحمي «مالك» الذي لا يعرفه ولا يعرف عنه شيئا. البعض قال لي لا بد أن «فارس» ملاك في جسد بشر. لكن آخرين كانوا...
كان يكفي أن أنظر للسماء لأعلم لما لا يرد شقيقي على الهاتف. متحفزا. مكتملا. باهيا. كان قرص القمر في قلب السماء. متألقا وسط النجوم. مدركا حجم ضوئه وعمق أثره. مختالا بنوره الذي يوقظ كل الصحاري...
في مايو ومنذ ما يزيد على ثلاثة وخمسين عاما, وقبل أن تهبط الأحلام على النائمين انفجر غضب ما من باطن الأرض فقسمها وضرب مبانيها وأهال التراب على ما يزيد على ثلاثة آلاف نسمة. يومها لم...
الشاب ذو الصوت الصادق حاصرني, كما كان لأسئلته تفرد مدهش فلم أملك إلا الانتظار, سار بي خطوات قليلة ثم أشار إلى سمكتين لونهما أزرق يتوسطان لوحة القماش المعلقة, وقال: «أتعرفين لماذا وُلدنا؟». صمت من هول...
أتصدقون أن بين وحشين كبار عاشت الغزالة الصغيرة آمنة حالمة, لكن الأهم أنها عن حق سعيدة, ثم عَنَّ لها أن تجرب الجنون, فإذا بها تعلن بصوت عال أنها في طريقها لتصدير السعادة, ولو لم أكن...