


عدد المقالات 103
«مُعَوض»، اسمه معوض، لم ينتبه لحظة دخولي، كان نائما في فراشه ولم ينهض لاستقبالي، في غرفته لم يكن أحد غيره يفقه شيئا عن المصطلحات الطبية، لكنه كان نائما، منذ عامين وهو نائم، أخفيت دموعي مبتعدة لكن صوت بكاء «أحمد الميت» أعادني للغرفة، لأجده ملقى على جسد معوض ينادي عليه أن يستيقظ. «أحمد الميت» نعم هذا اسمه ولو شئنا التعريف باسمه الثلاثي فهو «أحمد الحي الميت»، أصيب أحمد برصاصة شرطي ماهر صوبها مباشرة إلى قلبه فسقط ميتا، السماء كان بها بعض الضوء آنذاك وكان البرد قد رحل إثر حرارة الشباب وأصواتهم التي أيقظت مصر والعالم، بعضهم يعتبرون يوم الثامن والعشرين من يناير 2011 هو اليوم الأول فعليًّا للثورة وهو اليوم الذي انفلت فيه الرصاص على صدور ورؤوس وعيون الشباب والشابات. دفع جسد أحمد لداخل الثلاجة ليرقد بين زملائه الشهداء، تعرف أهله عليه في الصباح وتسلمه رجل قصير يرتدي جلبابا غامقا وسكب عليه المياه الدافئ ليعده للدفن، الرصاصة كانت ساكنة في منتصف صدره، والفجوة التي تركتها ظلت مؤطرة بالدماء، فجأة صرخ الرجل ثم سجد وانطلقت صيحته: الميت صحي. منذ أن عاد أحمد للحياة وهو هناك في غرفته بالطابق السابع بمستشفى القصر العيني الفرنسي بوسط القاهرة. وصل إليها بعدما اكتشف الأطباء أنه لم يمت وأنه ظل حيا رغم الرصاصة الساكنة بقلبه والليل الذي كان ينعق وحشة والبرد الثلجي الذي يحيطه في ثلاجة حفظ الموتى، لكنه ورغم ذلك لم يمت، عاد للحياة مثقوب القلب والروح عاجزا عن البقاء لثواني من دون جهازه باهظ التكلفة الذي تبرعت بثمنه سيدة مصرية فاضلة ما زالت تتحمل مصروفات المصابين منذ أن أسقطتهم الإصابة. «أحمد الميت» كان غطاسا ماهرا يعيش وسط الأسماك الملونة في البحر الأحمر، في المياه كانت حياته لكنه خرج منها يطالب بالحرية وبالحياة العادلة. فطعن في قلبه وهجر أسماكه للأبد. في المستشفى تعرف على زملاء الثورة. تعرف على أسرة مُعوض، وعلى أخيه الذي ترك عمله الهندسي ليتفرغ لرعاية شقيقه، وتعرف على والدته التي لم تيأس لحظة في سماع صوت ولدها الصغير الصيدلي النابه. تعًرف أحمد على مُعوض الراقد بلا حراك وصادقه واحتفل بعيد ميلاده وسط الآخرين. يلتقي المصابين كل يوم، يسير أحمد بجهازه إلى غرفة مصطفى ويدفع كرسيه المتحرك ليصل إلى غرفه أسامة. وصل مصطفى إلى المستشفى قبل أقل من شهر واحد، بينما كان أمام القصر الرئاسي يهتف مطالبا بدستور عادل لكل المصريين، فإذا بصوت مدوي من خلفه يهتف «حي على الجهاد». استعاد وعيه في غرفة المستشفى ليكتشف أنه فقد القدرة على السير، الرصاصة أصابته في العمود الفقري، مصطفى كان يدق الأرض بكبريائه قبل أسابيع قليلة، والآن يراقب السكون في غرفته منتظرا وصول «أحمد الميت» ليدفع كرسيه. يصل الشابان إلى غرفة «أسامة» الذي وصل أيضاً في يناير 2011، ومن يومها وهو سجين فراشه بعد أن مزق الرصاص الحوض. صادق غرفة العمليات واللون الأبيض. وما زال بانتظاره قائمة من العمليات الجراحية أملا في استعادة قدرته على السير مرة أخرى. الشباب الذي فقد بصره وهؤلاء الذين فقدوا عضوا حركيا أو أكثر انتقلوا إلى مستشفى آخر. في القصر العيني الفرنسي تسع حالات سيمضى عليهم عامان حين يهل يوم الخامس والعشرين من الشهر المقبل، عامان وهم في الفراش، يراقبون الثورة التي فجروها، يراقبون الحكومة التي أتت بها الانتخابات وهي تنساهم، عامان وما زال «معوض» في انتظار حقه في العلاج. عامان وأطباء ألمانيا ينتظرونه. وما زالت الحكومة تبحث وتناقش وتقرر والشباب المصاب معلق الأمل بعلاج ناجع يخرج بهم للنور مرة أخرى. عامان وصابرين راقدة في المستشفى بلا حراك يتغير عليها الليل والنهار، ولا يتغير مكانها. وصلت صابرين هي أيضا يوم الثامن والعشرين مصابة برصاصة في العمود الفقري، العظام التي تهتكت ترفض الالتئام، والجراحات تتوالى والألم يرفض فراقها، كانت كلماتها تخرج مبتورة مثقلة بالوجع، شعرت بها تخفى دموعها بين طيات الفراش، وما أن استدرت حتى انهالت دموعها وخرجت آهة طويلة قاتمة. في مستشفى القصر العيني الفرنسي يرقد أبناء لمصر دفعوا الثمن وما زال يدفعون. وثقوا بالغد ووهبوه حتى أجسادهم. لكن الغد ما زال يراوغهم ولم يستطع لهم النور بعد. النور كان قد غاب أثناء خروجي من المستشفى بصحبة «أم الثوار» السيدة خديجة، الأم التي احتضنت الثوار وفاضت عليهم من أمومتها بالكثير. ظل أحمد الميت يرافقنا معلقا بذراعها، أصر على مرافقتها حتى السيارة، لكنه وحين بلغ باب المستشفى توقف للحظة واستنشق الهواء مليا وضحك قائلا: «الله الشوارع فيها رصيف والعربيات لسه بتجري بسرعة».
إنه اللقاء بكل شغفه ولهفته وقوته وطاقته القادرة على إحياء الأمل وبعثه من باطن اليأس. إنه اللقاء.. فلم أجد لفظة أخرى تصف العيون المتلألئة ولا الخطوات المندفعة ولا تلك الحياة التي عادت تجري فكست الوجوه...
سمعت تلك الكلمة للمرة الأولى في منزلنا بينما جارتنا تأخذ قسطا من الراحة لدينا. اعتذرت عن كوب الشاي الذي أعدته أمي قائلة «لازم احضر العشا للاجئين اللي عندي». أخبرتني أمي أن «اللاجئ « مصطلح يطلق...
في الطابق التاسع كنت أسكن. ومن أعلى رأيت أطفال الجيران يرسمون في الشارع الإسفلتي خطا أبيض. ثم احتكروا لأنفسهم المساحة الأكبر وتركوا للطفل الأسمر وأقرانه ما تبقى. والأسمر كان في مثل عمرهم. وكذلك فريقه الذي...
«لقرون طويلة حكيت عني يا شهرزاد, غطى صوتك على صوتي» لكنى الآن وبدون ندم أشيعك إلى مثواك وأعلم أني لن أسبح في الفرح, لكني سأعيش بهجة غسل تراثك. وفى حضرة الحكاية علينا أن نبدأ القصة...
المشهد الأول: كان أن تحدث مرشح الرئاسة عن برنامجه الطموح لقيادة مصر في مرحلة مفصلية, واستعرض مجالات عدة ثم قال «وأما عن المياه فسوف نزيد مياه النيل بالدعاء». المشهد الثاني: صوت جهوري لرئيس الجمهورية آنذاك،...
طرقة واحدة مفاجئة، ثم ضاع الضوء وانسحبت الكهرباء إلى أسلاكها وتركتنا في عتمة قاتمة، بنظرة واحدة على الشارع أدركت أننا نصفان، نصف مضيء ونصف معتم، كان جانبنا صامتا وكأن الحياة قد توقفت عنه، حارسة العقار...
أعادته مرة أخرى إلى الطبق الصغير عقب الرشفة الأخيرة، ثم انتظرتْ دقائق وقَلَبَتْه فسال اللون الداكن برائحته النفاذة وتلون الخزف الأبيض. وأكملت هي حوارها تاركة لي الحيرة من أمر تلك القهوة التي تجمع جدتي بجارتنا...
أيمكن أن يصدق عاقل أن «فارس» حمل عتاده وسلاحه وسافر طويلا لكي يحمي «مالك» الذي لا يعرفه ولا يعرف عنه شيئا. البعض قال لي لا بد أن «فارس» ملاك في جسد بشر. لكن آخرين كانوا...
كان يكفي أن أنظر للسماء لأعلم لما لا يرد شقيقي على الهاتف. متحفزا. مكتملا. باهيا. كان قرص القمر في قلب السماء. متألقا وسط النجوم. مدركا حجم ضوئه وعمق أثره. مختالا بنوره الذي يوقظ كل الصحاري...
في مايو ومنذ ما يزيد على ثلاثة وخمسين عاما, وقبل أن تهبط الأحلام على النائمين انفجر غضب ما من باطن الأرض فقسمها وضرب مبانيها وأهال التراب على ما يزيد على ثلاثة آلاف نسمة. يومها لم...
الشاب ذو الصوت الصادق حاصرني, كما كان لأسئلته تفرد مدهش فلم أملك إلا الانتظار, سار بي خطوات قليلة ثم أشار إلى سمكتين لونهما أزرق يتوسطان لوحة القماش المعلقة, وقال: «أتعرفين لماذا وُلدنا؟». صمت من هول...
أتصدقون أن بين وحشين كبار عاشت الغزالة الصغيرة آمنة حالمة, لكن الأهم أنها عن حق سعيدة, ثم عَنَّ لها أن تجرب الجنون, فإذا بها تعلن بصوت عال أنها في طريقها لتصدير السعادة, ولو لم أكن...