الجنازات الثلاث قد تصيب بالاكتئاب

حين تسمع النغمة الشاذة في لحن جميل أو تلتقط الكلمة الخطأ في قصيدة متدفقة أو ترى الجانب القبيح في وجه كان جميلا فاعلم أنك في عُرف الطب قد صرت «مكتئبا» سمعتُ ذلك التعريف المميز في الوقت المناسب بل في الوقت الأمثل فما أشعر به إذن هو الاكتئاب لكن من قدم الوصف أيضاً ليس طبيبا إذن ربما هو شيء آخر وليس اكتئابا لقد رأيت أن أسأل فنانا لأحْظى بتعريف أكثر رأفة ووفق هذا التعريف وجدت أن جميع من حولي مكتئبون فكأن عطبا ما أصاب كل الأشياء وكل المعاني عطب قصف الفرحة ونثر الفتور وأخفى باللون الرمادي كل الألوان. الطب الذي لا يفحص إلا جسد الإنسان لم يصف شيئا لعلاج أمراض المجتمعات ولم يكتشف بعد دواء لأمراض السلطة ولا لعدواها ومع ما حققه الطب من تقدم إلا أنه فشل فشلا ذريعا في وقاية أفراد المجتمع من أمراض الحكم فالحكومات المتسلطة نقلت عدوى التسلط إلى مؤسساتها وأجهزتها وأحزابها وبالطبع إلى أفرادها ويؤكد المختصون في علم النفس السياسي على ظاهرة انعكاس النظام السياسي على الخصائص النفسية للشعوب، الأمر الذي يفسر سبب هذا التسلط الذي يتبدى يوما بعد يوم من مجموعات عانت لعقود من استبداد السابقين «النهضة التونسية» و «الإخوان المصرية» يعيدون السيناريو القديم لكأنما نشاهد نسخة جديدة لفيلم قديم مع تغيير الأبطال فقط. وإذا كانت الصدمة سببا من أسباب الإصابة بالاكتئاب وهو حال قطاعات واسعة ممن انتخبوا أبطال الفيلم الجدد ثم صدموا فيهم فلمَ طالني ولم أكن من بينهم؟ الحق أن السير بجنازات ثلاثة شبان قتلوا تعذيبا يمكن أن تصيب بالاكتئاب ورؤية أمهات ثكلى مفطورات القلب على أبناء كانوا مضرب الأمثال في الأخلاق والعلم قد يصيب بالاكتئاب وقراءة تقرير يصف حجم التعذيب وألوانه قد يصيب بالاكتئاب، في الجنازات الثلاث حط الحزن كل المكان ثم صاحبنا جميعا ولم يزل يستخدم الأستاذ الإنجليزي «أندرو صموئيل» وصف «الاكتئاب السياسي» حيث يرى أن الشعور بالعجز لإحداث فرق في القضايا الاجتماعية والسياسية يصيب الإنسان بالاكتئاب وأظن أنه ليس العجز فقط ما يصيبنا بالاكتئاب فهناك أيضاً «التلون والنفاق». قبل أسابيع قرأت أن بعضا من أفراد المعارضة التونسية تناور وتبيع لتحصل من حكام اليوم وأعداء الأمس على مناصب وصولجان ثم علمت عن واقعة مماثلة كالتوأم تحدث في مصر. على أن الاكتئاب مثله مثل الإحباط ليسا بالإصابات الصامتة بل أحيانا ما يعلنان عن أنفسهما في تفاصيل كثيرة فقد رأيت صديقين يتناقشان أحدهما يعرض رأيه والآخر يرفض أو يسخر أو يقاطع لكنه أبداً لم يحاور ثم التقيت بزميلة تُعلّم الطلاب في الجامعة أُسس الحوار فإذا بكلماتها تخرج شررا والتجريح يجري على لسانها سلسا كأنما الغناء ثم رأيت طفلا يلقي كوبا ورقيا وأبوه يغلق من بعده زجاج السيارة ضاحكا وعند عودتي للمنزل استقبلتني جارتي بسيل من التأنيب المُطَعم بالنكات وحين أبلغتها أني كنت خارج البلاد لدى وفاة أمها تراجعت قائلة «أنا كنت بأضحك معاكي» ثم ابتلعت كل الحوار خلف ستار الهزل الذي لا يخلو أبداً من جد. حين حاولت إحدى أستاذات علم النفس تبسيط معنى الاكتئاب أسمته «قوقعة» ثم أضافت أنه رد فعل الإنسان تجاه ما يستعصي ابتلاعه من ألم أو صدمات البعض يتقوقع في الاكتئاب وآخرون يلتفون حول المشكلات تاركين إياها في المنتصف كأنها تمثال ضخم. ينتمي رد فعل جارتي للنوع الثاني حيث المراوغة أسهل وأقل تكلفة ويرى الأطباء أنها وسيلة يلجأ لها عادة هؤلاء الذين لم يتعلموا كيفية مواجهة المشكلات بصورة صحية إنها «حيلة نفسية» يختلف الإسراف في استخدامها من فرد لآخر وقد يلجأ البعض لحيلة «الإسقاط» وتعني في علم النفس أن ينكر الفرد عيوبه ويتهم الآخرين بها وكذلك «العدوان» وهو ما نجده شائعا بل ويزداد اتساعه يوما بعد يوم و «النكوص» وهو العودة أو الردة إلى سلوك طفولي غير ناضج، من الممكن أيضاً أن يلجأ الإنسان إلى «التبرير» بتفسير تصرف خاطئ بأعذار تبدو معقولة ولكنها غير حقيقية أو «التعميم» هو أن يطبق الفرد خبرة مر بها في موقف معين على مواقف أخرى قد تتشابه أو تختلف معها وكذلك يقوم بعض الأفراد بإظهار الحب لشخص مستبد أو معتد أو المبالغة في الضحك بصورة هستيرية كرد فعل عكسي لضغوط وصراعات مؤلمة. الفريق الذي يقع في الاكتئاب تقدره منظمة الصحة العالمية بمئة وأحد وعشرين مليون إنسان في العالم وبصفة عامة فإن فرص إصابة النساء بالاكتئاب أعلى لأسباب عدة على رأسها دور الهرمونات في جسد المرأة من ناحية أخرى فإن الرجال عادة ما يقعون في الإدمان قبل السقوط في الاكتئاب على أن العكس غالبا ما يحدث بين النساء إذ إن إصابة النساء بالاكتئاب قد تقود للإدمان لكن ماذا لو أصاب البعض إدمان للسلطة؟ كيف سيتعامل الطب مع هذا النوع من الإدمان؟