


عدد المقالات 103
في الزي المدرسي الأزرق، وقفت أمام رجلي الأمن المتسائلين عن مبرر وجود طفلة في الرابعة عشرة على أبواب الجامعة، كان الزمن هو سبتمبر عام 1982 حيث الشوارع العربية تموج بالغضب إزاء مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا في لبنان، حجم ضحايا الهجوم على المخيمين الفلسطينيين لم يحسم، أكدت بعض التقارير بلوغهم عدة آلاف، وأشارت تقارير العدو إلى عدة مئات، ناهيك عن آلاف الأشخاص الذين خرجوا من المأساة بإعاقات صاحبتهم مدى الحياة. في مدينتي المصرية كما في كل المدن العربية تشكلت اللجان لمناصرة أهالي صبرا وشاتيلا، انضممت إلى إحدى تلك اللجان وهناك علمت أن محاضرة حول أسباب الصراع وتاريخه ستلقى في الجامعة في الواحدة ظهرا، تسللت من مدرستي بكذبة واهية، ووقفت أمام رجلي الأمن اللذين ابتسما ربما لسذاجتي وسمحا لي بالدخول. استعدت تفاصيل المشهد عشرات المرات لاحقاً، إحداها وأنا على باب جامعة دمشق في ربيع 2009 أنتظر مع زميلتي السورية رجل الأمن لينهي فحص أوراقها، دقائق وعاد إلينا معتذرا فاتحا أمامنا الطريق، فقد كان زوجها ضابط أمن. لكن سيارتي التي لا تحمل أي إشارات تدعمها وقفت عشرين دقيقة أوائل العام الماضي في انتظار السماح لي بدخول جامعة القاهرة وبعد نقاش غاضب مع ضابط الأمن، وافق على دخولي إلى الجامعة على مسؤوليته الشخصية. صارت أوراقي تقفز تلقائيا كلما هممت بالاقتراب من أي جامعة، بل إن وجه رجل الأمن هو الصورة الذهنية الأقرب لذاكرتي حين يتصادف مروري أو دخولي إلى أي جامعة. حمدت الله مرارا حين دسست يدي في حقيبتي المزدحمة دوماً ولمست محفظتي الحاضنة لأوراقي. بأدبه المعتاد فتح لي الباب زميلي المصري النابه الذي نقل إلى طلابه الكثير عن الثقافة المصرية والعربية عبر محاضراته المتخصصة في الأدب العربي في الجامعة الألمانية، التي أخرجت تسعة علماء حاملين لجائزة نوبل. باعتياد الطفل أخرجت جواز سفري وخطابات الدعوة التي تلقيتها من د.عاطف بطرس. انفجر عاطف ضاحكا، وأشار إلي أن أعيد جواز سفري إلى حقيبتي، فوجئت بنفسي بداخل قاعة طويلة تتخللها أبواب كثيرة، لكن اللافت هو اللوحات المكتوبة باللغة العربية أو الفارسية والتي زينت أغلب الأبواب بجانب اللغة الألمانية، فسر لي مضيفي الأمر، فنحن بداخل مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة فيليب في ماربورغ. حين التقطت أنفاسي سألت عن الأسوار العالية التي تفصل الجامعة عن المناطق الأخرى، فلم يكن هناك لا أسوار ولا جدران، كان هناك باب خشبي أنيق وعتيق سهل الدفع ومفتوح طوال الأيام بما فيها نهاية الأسبوع، يدخل منه الطلبة والأساتذة ومن يشاء من أهل المدينة الحمراء! هكذا كانت الصحافة تسمي ماربورغ قبل الوحدة الألمانية، بسبب قوة الحركة اليسارية فيها. عند اقتراب السادسة بدأ الحضور في التوافد، وقفت خارج قاعة المحاضرة فإذا بي لا أبعد إلا أمتاراً قليلة عن المدخل الرئيسي، وكلما فتح الباب ليدخل شخص ما أرى جزءاً من الشارع القريب. كانت دعوتي لإلقاء محاضرة عن «دور النساء في الثورة المصرية» هي ثمرة تعاون ما بين قسم دراسات الشرق الأوسط ومؤسسة «ميادين» تلك المؤسسة الفتية التي أنشأها عدد من المصريين الأكاديميين والنشطاء في ألمانيا ومصر، أسابيع قليلة وكانت المؤسسة التي ولدت لدعم الديمقراطية والأمل الوليد في مصر قد أشهرت. ألم الفراق ترجمه المصريون هناك لعمل دؤوب أسفر عن إنشاء مؤسسة «ميادين التحرير» التي سجلت في برلين، وعن أنشطة فعلية بدأت في مصر. اندفع الباب مرة أخرى ودخل هذه المرة فيض من الشباب بملامح آسيوية، يعقبه ثلاث فتيات محجبات، تنطق ملامحهن العربية، تعجبت من ذلك التنوع المذهل في الجامعة التي تعد أول جامعة بروتستانتية في أوروبا، والتي أسسها الكونت فيليب الملقب بالطيّب عام 1527. لكن الجامعة والمدينة ماربورغ فقدت فيما بعد طابعها الديني، وصارت أكثر انفتاحا لكل الأطياف الدينية والسياسية حتى إنها تضم طالبات وطلبة من مختلف أنحاء ألمانيا ومن 80 دولة أخرى. ورغم ارتباط ذلك المجتمع الصغير الذي يقارب الثمانين ألف نسمة بالجامعة عبر فرص العمل التي توفر الجامعة أغلبها، فإن الصلة الأهم نبتت من غياب الأسوار، فالجامعة ومراكزها العلمية المختلفة تسكن وسط المدينة، تستقبل أفراد المجتمع في كافة الأنشطة، تشارك المدينة أعيادها وأفراحها وتاريخها الزاهر، ترحب بالمواطنين في المحاضرات التي تنظمها الجامعة ومراكزها البحثية، فالجميع يمكنه دفع الباب قليلا وحضور المحاضرات العامة وطرح الأسئلة ومشاهدة المعارض ومهرجانات الأفلام، المدينة بأفرادها مرحب بها في الجامعة، لذلك لم يكن غريبا أن يعتز أهل المدينة بالجامعة يحتضنون مبانيها غير المسورة ويدعمون أنشطتها بالحضور والمال القليل الذي يعبر في الحقيقة عن الكثير.
إنه اللقاء بكل شغفه ولهفته وقوته وطاقته القادرة على إحياء الأمل وبعثه من باطن اليأس. إنه اللقاء.. فلم أجد لفظة أخرى تصف العيون المتلألئة ولا الخطوات المندفعة ولا تلك الحياة التي عادت تجري فكست الوجوه...
سمعت تلك الكلمة للمرة الأولى في منزلنا بينما جارتنا تأخذ قسطا من الراحة لدينا. اعتذرت عن كوب الشاي الذي أعدته أمي قائلة «لازم احضر العشا للاجئين اللي عندي». أخبرتني أمي أن «اللاجئ « مصطلح يطلق...
في الطابق التاسع كنت أسكن. ومن أعلى رأيت أطفال الجيران يرسمون في الشارع الإسفلتي خطا أبيض. ثم احتكروا لأنفسهم المساحة الأكبر وتركوا للطفل الأسمر وأقرانه ما تبقى. والأسمر كان في مثل عمرهم. وكذلك فريقه الذي...
«لقرون طويلة حكيت عني يا شهرزاد, غطى صوتك على صوتي» لكنى الآن وبدون ندم أشيعك إلى مثواك وأعلم أني لن أسبح في الفرح, لكني سأعيش بهجة غسل تراثك. وفى حضرة الحكاية علينا أن نبدأ القصة...
المشهد الأول: كان أن تحدث مرشح الرئاسة عن برنامجه الطموح لقيادة مصر في مرحلة مفصلية, واستعرض مجالات عدة ثم قال «وأما عن المياه فسوف نزيد مياه النيل بالدعاء». المشهد الثاني: صوت جهوري لرئيس الجمهورية آنذاك،...
طرقة واحدة مفاجئة، ثم ضاع الضوء وانسحبت الكهرباء إلى أسلاكها وتركتنا في عتمة قاتمة، بنظرة واحدة على الشارع أدركت أننا نصفان، نصف مضيء ونصف معتم، كان جانبنا صامتا وكأن الحياة قد توقفت عنه، حارسة العقار...
أعادته مرة أخرى إلى الطبق الصغير عقب الرشفة الأخيرة، ثم انتظرتْ دقائق وقَلَبَتْه فسال اللون الداكن برائحته النفاذة وتلون الخزف الأبيض. وأكملت هي حوارها تاركة لي الحيرة من أمر تلك القهوة التي تجمع جدتي بجارتنا...
أيمكن أن يصدق عاقل أن «فارس» حمل عتاده وسلاحه وسافر طويلا لكي يحمي «مالك» الذي لا يعرفه ولا يعرف عنه شيئا. البعض قال لي لا بد أن «فارس» ملاك في جسد بشر. لكن آخرين كانوا...
كان يكفي أن أنظر للسماء لأعلم لما لا يرد شقيقي على الهاتف. متحفزا. مكتملا. باهيا. كان قرص القمر في قلب السماء. متألقا وسط النجوم. مدركا حجم ضوئه وعمق أثره. مختالا بنوره الذي يوقظ كل الصحاري...
في مايو ومنذ ما يزيد على ثلاثة وخمسين عاما, وقبل أن تهبط الأحلام على النائمين انفجر غضب ما من باطن الأرض فقسمها وضرب مبانيها وأهال التراب على ما يزيد على ثلاثة آلاف نسمة. يومها لم...
الشاب ذو الصوت الصادق حاصرني, كما كان لأسئلته تفرد مدهش فلم أملك إلا الانتظار, سار بي خطوات قليلة ثم أشار إلى سمكتين لونهما أزرق يتوسطان لوحة القماش المعلقة, وقال: «أتعرفين لماذا وُلدنا؟». صمت من هول...
أتصدقون أن بين وحشين كبار عاشت الغزالة الصغيرة آمنة حالمة, لكن الأهم أنها عن حق سعيدة, ثم عَنَّ لها أن تجرب الجنون, فإذا بها تعلن بصوت عال أنها في طريقها لتصدير السعادة, ولو لم أكن...