وصية أبي

كان أبي شيخا جليلا محبا للخير كارها للغضب، وكنت ارى فيه حكمة الفلاسفة ونبل الملوك، فاطيل الجلوس معه ويشدني حديثه، تعلمت منه غفر الله لنا وله الكثير الكثير. وذات يوم بينما كنت أستعد للسفر دنا مني وقال: يا بني لا ترتد ثوبا غير ثوبك، ولا تنظر الى ما متع الله به غيرك، وخذ من الناس حسن الخلق والعلم، ولا تحدث احداً بعيوبهم. وأن يا بني احفظ السر وكن امينا لمن امن لك، واحذر الكذب فهو سوء ما بعده سوء. وأن يا بني احسن لمن احسن اليك واتقن عملك واتق الله فيما تقول وتكتب ولا تشهد زوراً. ولا تسع وراء الدنيا وشهرتها متناسيا الاخرة فكم من شهير بالدنيا منكر بالسماء وكم مغمور بالارض شهير بالسماء. لأن معيار السماء بالتقوى لا بالقوة والاخرة هي الابقى. ثم سكت برهةً وأردف قائلا واحذر "ابن الحرام" والشيخ المتصابي ومن يبدأ حديثه بـ "أنا". فـ "أنا" جعلت من ابليس شيطانا، وأحذرك يا بني شياطين الإنس فهم اكثر خطراً من شياطين الجن. فاستأذنته بالحديث ولما أذن لي سألت لم هم اخطر؟ فابتسم قائلاً لأن شياطين الجن ملعونون أينما وجدوا، بينما شياطين الإنس يمكن ان يظهروا بصورة الرجل الصالح، والصادق التقي والطبيب، والمثقف والاستاذ.. إلخ. فاستأذنتهُ ثانية ثم سألت كيف اميزهم من بين الناس؟ فأجاب ابتعد عمن يثني على نفسه وقليل المروءة كثير الكلام ومن يخلف وعده فتلك هي صفاتهم. فإن وجدتها في امرئ قابلته تجنبه لاسيما إن كان أشيب الرأس فلا تطعه في امرك ولو حملك على ذلك بسيف مذهب. تعجبتُ لحديثه وقلت لم الأشيب؟ فقال لأن حياته الطويلة أكسبته خباثة النفس ودناءة الروح والفكر حتى اصبح سمه قاتلا وريحة نتنة. ارعبني حديث أبي فقد كنت أظن العالم مثل أمي حنانا وغفرانا، وبينما كنت غارقاً بالصمت والحيرة وضع يده على كتفي، وقال: لا تحزن إنهم قلة، وقد حذرتك ألا ترتدي ثوبا غير ثوبك لأن زئير الثعلب مقلداً الأسود يضحك ولا يخيف. وأن النظر إلى ما هو ملك لغيرك يجلب الحسد، وأن الأمانة ميثاق الله لبني الإنسان. قاطع إصغائي التام بوق المركبة التي أقلتني إلى المطار فنظرت إليه قائلا وقد فاضت عيناي: ادع لي يا احب الناس الى قلبي الا يجمعني بالسيئين، وأن يسخر لي عباده بما فيه الخير لي ولهم. ثم ودعته وغادرت وقد اراحني دعاؤه الحار، ومضى احد عشر عاماً منذ ان دعا لي الشيخ الجليل، وكبرت وأنا اسير حسب وصاياه التي امتزجت بأخطائي لأنني إنسان، ولكن دعاءه لي لم يستجب.. أم تراه اختبارا؟. منصور المطلق https://twitter.com/almutlke