عندما يكون استعمارنا داخلياً..

كشفت الثورات العربية واقعا مأساويا فاق ما كان يتوقعه أكثر المتشائمين، فلم يقتصر الحال على الرفض الممنهج الذي أبدته الأنظمة الديكتاتورية للتغيير وثورات شعبها، وإنما تجاوز إلى أن تحولت تلك الجيوش العربية التي يصرف عليها الشعب من قوت يومه إلى أدوات قمعية بيد الأنظمة. عقود طويلة وما تعرف بالأنظمة العربية تحدثنا عن وحشية الاستعمار وكيف أفقرت البلاد والعباد، تحدثنا عن مراكز الاعتقال في تلك الحقبة من عمر البلاد العربية، صورت لنا بأن الاستعمار وحش كاسر، وهو كذلك، غير أنها لم تقدم لنا ولا مرة واحدة، منجزا مقنعا لديمقراطيتها. في مصر التي كانت ملكية، كانت القاهرة واحدة من بين أجمل وأنظف المدن في العالم، وكانت تضاهي في رقي جامعتها، جامعات لندن وباريس، وتفوق حتى جامعات أميركا آنذاك. لم تسجل عمليات قتل وتعذيب للشعب المصري على يد الأجهزة الأمنية، بل حتى المظاهرات التي كانت تخرج في مصر الملكية، كانت تواجه بأسلوب حضاري، تعجز عنه أميركا الديمقراطية اليوم. الجمهوريات العربية، طالما كانت تصف تلك الفترة بأنها مرحلة استلاب للمستعمر البريطاني، وأن الثورة التي حصلت عام 1952 إنما جاءت كردة فعل على الاستلاب للمستعمر البريطاني، وجاء حكم العسكر لتجعل مصر من بين البلدان المتخلفة، وفقدت القاهرة بريقها، وأثقل الاقتصاد المصري، وللقصة فصول مأساوية توجت أخيرا بردة فعل العسكر على ثورة 25 يناير، التي كنا نتوقع أنها ستخرج مصر من ربقة الحكم العسكري، وما أعقب ذلك من مجازر قام بها العسكر وأدخلت مصر في أتون متاهة لا يعلم مداها إلا الله. وما قلناه عن مصر ينطبق على العراق الملكي والآخر الجمهوري، والكل يعلم فصول القصة، بين ما كانت عليه بغداد وما هي عليه اليوم، وكيف صار الناس يترحمون على أيام الملوك، خدم المستعمر، كما كان أنصار الانقلابات العسكرية يسمونهم. وربما في سوريا مثال صارخ على الاستعمار الداخلي الذي مارسته سلطة العسكر المحلية على أبناء البلد، فسوريا التي استولى على سلطتها وزير الدفاع، العسكري، حافظ الأسد، ما زالت تطحن بأبناء البلد بشكل لا يمكن تصديقه، فلم تدخر آلة للقتل دون أن تستخدمها في قتل شعبها، وآخرها الأسلحة الكيماوية. ببساطة، أسال أي سوري الآن عن بقائه تحت سلطة الأسد أو أن تقوم أميركا بضرب النظام وإسقاطه أو حتى احتلال البلاد، فإنه لن يتردد لحظة واحدة في اختيار ضرب النظام أو حتى احتلال البلد، ليس نقصا في الوطنية، وليس من باب الخيانة، وإنما لأن ما فعلته الأنظمة القمعية، جعلت نسبة كبيرة من أبناء الشعب، تكفر بما تعرف بالأنظمة الوطنية، بل صارت تصفها بأبشع الأوصاف، فما فعلته تلك الأنظمة، لم تفعل مثله كل السلطات الاستعمارية التي مرت على المنطقة. إننا اليوم بحاجة ماسة إلى تعريف أو إعادة تعريف مصطلح الاستعمار، فالاستعمار ليس بالضرورة أن يكون قادما من خلف البحار أو من خارج الحدود، وإنما قد يكون من داخل الحدود، يرتدي زي الوطن والوطنية، ويفعل بأبناء الشعب ما تعجز وتستحي منه جيوش جاءت من خارج الحدود. الاستعمار هو كل من يستعمر الشعب، سواء أكان محليا أم خارجيا، كل من يقمع حرية الشعب، كل من يرفع السلاح بوجهه، كل من يسعى للثراء على حساب فقراء الشعوب وإفقارهم. لسنا من دعاة الاحتلالات الأجنبية كما يسعى البعض لترويج ذلك، ولسنا ممن يفرح عندما يشاهد صواريخ سكود تدك ليل عواصمنا الغافي على ضفة الموت «الوطني»، ولكن قبل أن يسأل دعاة الوطنية لماذا نقبل بهذا الحل، فليسألوا قادتهم «الوطنيين» كيف أوصلونا لهذه المرحلة؟ ماذا فعلوا حتى دفعوا بنا إلى الارتماء في حضن دعوة الآخرين، البعيدين، ليخلصونا مما نحن فيه. نريد اليوم أن نستعيد هويتنا، ونستعيد كل الشعارات الوطنية التي صادرها أولئك الانقلابيون على مر نصف القرن، نريد أن نعيد ترتيب الأولويات، فالوطن وسيادته وكل تلك الشعارات، لا ينبغي أن تكون على حساب الإنسان وكرامته، لا يمكن أن تمتهن كرامة الإنسان فداء لما يسمى الوطنية أو السيادة الزائفة، الإنسان وكرامته وحريته، مقدس ومقدم على أي شيء آخر، ومنها تأتي كرامة الوطن وهويته وحريته.