


عدد المقالات 103
وقف خلف جمع من الضيوف وظل ينظر لي ويرفع صوته ليصلني مجتهدا للتواصل مع غناء «عبدالحليم حافظ» «قولي حاجة أي حاجة. قول بحبك. قول كرهتك». ظلت نظرته محفورة في رأسي بضع سنوات ثم غابت. لكن صوت عبدالحليم حافظ ظل يقظا ولم يغب أبدا, كنت خارجة لتوي من الطفولة وما زالت ذاكرتي معلقة بالألوان والأحلام الزاهية, حتى فوجئت به يجذبني بهدوء, يتلقف قلبي بحنان, ويربت على مشاعر مراهقتي المرتبكة, استيقظتُ من الطفولة على غناء عبدالحليم حافظ الذي استقبلني بتواضع فلم أهابه كما كنت أهاب أم كلثوم ولم تفصل بيني وبينه الغربة التي فصلتني عن عبدالوهاب. كان عبدالحليم قريبا من الصغار والكبار, كان حبا تطلعت إليه كل الفتيات, وكان ذكرى فرحة لأمي التي أسرت لي بأنها سألت أبي حين طلب يدها للزواج «من تحب من المطربين؟» فصمت أبي يفكر ويضبط كلماته, ثم رد عليها بترقب «اللي بيحرك مشاعري هو عبدالحليم حافظ». كان عبدالحليم شابا يافعا لحظتها يصنع لنفسه طريقا صعبا وسط نجوم رسخوا أقدامهم في ساحة الغناء والتلحين, لكن ذلك الشاب القادم من أعماق الريف معجونا بالنيل والألم اعتمد على صدقه وعلى شغفه العميق بالموسيقى. فلمس صوته القلوب وقبلت أمي الزواج من أبي الذي اعتبرته حساسا ورومانسيا لإعجابه بعبدالحليم حافظ. رغم مرور 35 عاما على رحيله، فإن عبدالحليم حافظ ما زال شامخا, يأتينا من السماء مربتا على قلوبنا المنتفضة انزعاجا لسماع أصوات خاوية من الصدق ومن الدفء. ما زال صوته محرضا على الأمل وعلى الحب وعلى الثورة, في ميدان التحرير وحين أحبط مبارك المصريين في اليوم السابق لتنحيه بإعلانه التمسك بالسلطة وتفويض «عمر سليمان نائبه لإدارة كثير من شؤون البلاد» يومها لم يجفف دموع المتظاهرين إلا لفتة ذكية من واحد من الشباب. قفز على المنصة الكبيرة وسط الميدان وأخرج صوت عبدالحليم حافظ وبثه في إذاعة الميدان, فإذا باليأس ينسحب, والدموع تتبخر أملا, وغناؤه يصدح فتصمت ضوضاء الميدان وصوته يعلو: وطني حبيبي الوطن الأكبر.. يوم ورا يوم أمجاده بتكبر وانتصاراته مالية حياته وطني بيكبر وبيتحرر.. وطني وطني وطني يا مالك حبك قلبي.. وطني يا وطن الشعب العربي ظل الشباب في الحلقة التي أخذت في التشكل أمامي يكررون «وطني يا مالك حبك قلبي, وطني يا وطن الشعب العربي» تمسكوا بالمقطع وكأنما يبعثونه رسالة للثورات القادمة. هل عبدالحليم على الميدان بعد خمس وثلاثين عاما من وفاته فأنقذنا من الإحباط وما زال. وبين أغنية «صافيني مرة» الأولى التي أجازت له الغناء في الإذاعة المصرية عام 1952. وانتهاء بـ «حبيبتي من تكون» التي ختم بها رحلة حياته الغنية, قدم عبدالحليم حافظ للوطن العربي أكثر من مئتين وثلاثين أغنية, أثرى بها مشاعر الحب والهجر والفقد والألم والفخر. أعادنا حليم إلى قلوبنا, صالحنا على عواطفنا, مسافرا عكس ثقافة لطالما اعتبرت الحب «إثما» وأضفت على العشق مسحة من المجون, وأذلت العشاق إذ تركوا لقلوبهم القرار, وحين جاء عبدالحليم اعتذر لهم عن التسلط وعن الجمود وأمدهم ببراح أخضر نبيل. غير أن الواقع آنذاك كان جاهزا لاستقبال عبدالحليم, بل ربما هو الذي حرض الأيام لتأتي به في لحظة كان فيها الضوء يصارع الظلام. وكان الإبداع يجاهد للخروج من شرنقة العتمة التي أسقطنا فيها الاستعمار العثماني والبريطاني الذين تحالفوا مع الفقر والأمية والاستبداد. في تلك الآونة وحين ولد عبدالحليم حافظ عام 1929، كان المصريون قد اعتادوا المظاهرات واختبروا طلقات الرصاص, وكان سيد درويش قد قفز باللحن العربي قفزة واسعة, وجلب إلى كلمات الأغاني موضوعات جديدة صانعا ثورة مهدت لغيره من الفنانين. نما وجدان عبدالحليم وما زالت ألحان وكلمات سيد درويش يقظة في الشارع المصري. وقبل ميلاد عبدالحليم بيوم واحد كان «طه حسين» قد عين عميدا للجامعة المصرية. وكانت المعارك الفكرية قد اشتعلت مستفزة عقول أجيال من المصريين حملوا على أكتفاهم نهضة الفن والشعر والأدب, فخرج نجيب محفوظ ويوسف إدريس وأحمد بهاء الدين وصلاح جاهين والشاعر المبدع صلاح عبدالصبور الذي ولد على بعد أيام فقط من مولد عبدالحليم حافظ. في ذلك العصر تلألأ نجيب سرور والشيخ إمام, وأممت قناة السويس وارتبط القطن الراقي بمصر. وبنى عبدالناصر برج القاهرة بأموال أميركية جاءت على سبيل الرشوة. في ذلك العصر حصلت النساء على حق الترشيح والانتخاب عام 1956, وفي ذلك العصر كان يأتي الصباح وعلى الرصيف آلاف النساء تعدو في ملابس أنيقة بسيطة لتلحق بعملها من دون أن تهان في الشارع أو في الإعلام. كان زمنا آهلا باستقبال عبدالحليم, صارعت فيه مصر سياسيا واقتصاديا وعسكريا وفنيا وأدبيا, فحصلت بجدارة على فنان برومانسية عبدالحليم الذي اعتبره النقاد احتجاجا أنيقا على الغناء الكلاسيكي, وعلى أنماط الغناء التقليدي وعلى كلمة الغزل المباشرة الساذجة أحيانا ليخرج بنا إلى فضاء ناعم عذب تحول الغزل فيه إلى تأمل في الجمال وإجلال للبهاء. لقد هجرت أغنية عبدالحليم القاعات الأنيقة وسافرت إلى الحقول والحارات, إلى الحدائق والمصانع, وإلى عمق البيوت التي لم تستطع صد التدفق القادم عبر صوته. في ذكرى وفاة عبدالحليم حافظ الذي فارق في نهاية شهر مارس راحلا مع قدوم الربيع تاركا صوته ليفتح الأزهار, نقف الآن فلا نجد أزهارا لتتفتح, ولا أنوارا لتسطع, فالظلام سابح في الفضاء وفي العقول, لكن عبدالحليم رغم ذلك ما زال يشدو «بكرة وبعدو بكرة وبعدو اللي وعدني حيوفي بوعدو أجمل يوم حيمر عليا بعد يومين حتشوفو عنيا».
إنه اللقاء بكل شغفه ولهفته وقوته وطاقته القادرة على إحياء الأمل وبعثه من باطن اليأس. إنه اللقاء.. فلم أجد لفظة أخرى تصف العيون المتلألئة ولا الخطوات المندفعة ولا تلك الحياة التي عادت تجري فكست الوجوه...
سمعت تلك الكلمة للمرة الأولى في منزلنا بينما جارتنا تأخذ قسطا من الراحة لدينا. اعتذرت عن كوب الشاي الذي أعدته أمي قائلة «لازم احضر العشا للاجئين اللي عندي». أخبرتني أمي أن «اللاجئ « مصطلح يطلق...
في الطابق التاسع كنت أسكن. ومن أعلى رأيت أطفال الجيران يرسمون في الشارع الإسفلتي خطا أبيض. ثم احتكروا لأنفسهم المساحة الأكبر وتركوا للطفل الأسمر وأقرانه ما تبقى. والأسمر كان في مثل عمرهم. وكذلك فريقه الذي...
«لقرون طويلة حكيت عني يا شهرزاد, غطى صوتك على صوتي» لكنى الآن وبدون ندم أشيعك إلى مثواك وأعلم أني لن أسبح في الفرح, لكني سأعيش بهجة غسل تراثك. وفى حضرة الحكاية علينا أن نبدأ القصة...
المشهد الأول: كان أن تحدث مرشح الرئاسة عن برنامجه الطموح لقيادة مصر في مرحلة مفصلية, واستعرض مجالات عدة ثم قال «وأما عن المياه فسوف نزيد مياه النيل بالدعاء». المشهد الثاني: صوت جهوري لرئيس الجمهورية آنذاك،...
طرقة واحدة مفاجئة، ثم ضاع الضوء وانسحبت الكهرباء إلى أسلاكها وتركتنا في عتمة قاتمة، بنظرة واحدة على الشارع أدركت أننا نصفان، نصف مضيء ونصف معتم، كان جانبنا صامتا وكأن الحياة قد توقفت عنه، حارسة العقار...
أعادته مرة أخرى إلى الطبق الصغير عقب الرشفة الأخيرة، ثم انتظرتْ دقائق وقَلَبَتْه فسال اللون الداكن برائحته النفاذة وتلون الخزف الأبيض. وأكملت هي حوارها تاركة لي الحيرة من أمر تلك القهوة التي تجمع جدتي بجارتنا...
أيمكن أن يصدق عاقل أن «فارس» حمل عتاده وسلاحه وسافر طويلا لكي يحمي «مالك» الذي لا يعرفه ولا يعرف عنه شيئا. البعض قال لي لا بد أن «فارس» ملاك في جسد بشر. لكن آخرين كانوا...
كان يكفي أن أنظر للسماء لأعلم لما لا يرد شقيقي على الهاتف. متحفزا. مكتملا. باهيا. كان قرص القمر في قلب السماء. متألقا وسط النجوم. مدركا حجم ضوئه وعمق أثره. مختالا بنوره الذي يوقظ كل الصحاري...
في مايو ومنذ ما يزيد على ثلاثة وخمسين عاما, وقبل أن تهبط الأحلام على النائمين انفجر غضب ما من باطن الأرض فقسمها وضرب مبانيها وأهال التراب على ما يزيد على ثلاثة آلاف نسمة. يومها لم...
الشاب ذو الصوت الصادق حاصرني, كما كان لأسئلته تفرد مدهش فلم أملك إلا الانتظار, سار بي خطوات قليلة ثم أشار إلى سمكتين لونهما أزرق يتوسطان لوحة القماش المعلقة, وقال: «أتعرفين لماذا وُلدنا؟». صمت من هول...
أتصدقون أن بين وحشين كبار عاشت الغزالة الصغيرة آمنة حالمة, لكن الأهم أنها عن حق سعيدة, ثم عَنَّ لها أن تجرب الجنون, فإذا بها تعلن بصوت عال أنها في طريقها لتصدير السعادة, ولو لم أكن...