alsharq

د. وائل مرزا

عدد المقالات 101

حين ترفضُ الشعوبُ العربية «الجماعات المسلحة»

30 سبتمبر 2012 , 12:00ص

حين تتسمى مجموعةٌ باسم «أنصار الشريعة»، وحين تَطرح نفسها باسمها وشعاراتها على أنها تحمي حمى الإسلام، وحين يخرج ثلاثون ألف مواطنٍ في مظاهرةٍ سلمية مطالبين بطردها من المدينة، وحين يتحقق هذا بعد سقوط أربعة شهداء وسبعين جريحاً، وحين يجري هذا كله في ليبيا، فإن كثيراً من الانطباعات والأفكار السائدة تصبح بحاجة لتفكير وإعادة نظر. من المفيد كخلفية للموضوع الاستشهادُ هنا برؤية نافذة طرحها الدكتور وليد سيف في دراسة سابقة له قبل أن نقوم بالتعليق. يقول الدكتور: «بالمعاني والمفاهيم يتمثل العالم في وعينا.. والتفاعل الاجتماعي والإنساني ليس ممكنا بغير منظومات المعاني والمفاهيم المشتركة التي نُعرِّف بها الأشياء والوقائع، ونُأوِّل بها المواقف، ونبني بها روايتنا عما جرى ويجري... ومن ثم فإن تأويلاتنا وتعريفاتنا للأشياء والوقائع يمكن أن تتضارب بتضارب الأغراض والمصالح والمقاصد. إذ يسعى كل طرف من أطراف التفاعل إلى استدعاء المعاني التي تخدم أغراضه لتعريف الوقائع والأشياء وتأويلها، ويفاوض بصورة مضمرة أو معلنة لفرض تعريفاته وتأويلاته... ولكن التنازع على التعريفات والتأويلات لا يجري بصورة متكافئة. هنا تتدخل علاقات القوة بكل تجلياتها المادية والمعرفية والروحية والسياسية، ليتمكن الطرف الأقوى من فرض تعريفاته وتأويلاته وتوصيفاته على عقول الآخرين. وبذلك يتمكن من السيطرة على العقول والأفئدة، وتشكيل نظرتها للعالم وإدارة سلوكها واستجاباتها بناء على ذلك. هكذا يتشكل خطاب القوة Discourse ورواية القوي Narrative. المعاني والخطابات بهذا المفهوم ليست مجرد تمثيل للواقع، بل هي الواقع نفسه كما يتمثل في عالم الوعي والتصورات. وتغيب المسافة بين ثنائية الأسماء والأشياء، أو الدوالّ والمدلولات، لتصير الأسماء هي الأشياء بقدر ما تتعرف الثانية بالأولى. وبذلك يكون الصراع على المعاني والخطاب هو الصراع على العقول والمدركات، وهو في آخر المطاف الصراع على امتلاك الواقع وتشكيله. يُسمي الذين طُردوا من بنغازي أنفسهم اسماً رناناً: «أنصار الشريعة»، ويستعملون قوة السلاح وقوة الضجيج لتغييب المسافة بين الاسم والمضمون، بحيث تتأكد روايتهم في الواقع، وتقتنع الأغلبية الصامتة بأن الرواية هي الحقيقة. وبمزيج من الجهل والاستعجال وسوء النية، يأتي إعلامٌ غربيٌ وشرقي، معه كتابٌ عابرون يسميهم البعض مثقفين، ليلتقفوا تلك الرواية ويساهموا بفرضها على الواقع العربي كأنها قدرٌ لا مهربَ منه ولا مفرّ. أسهمت الظروف في أن تنجح هذه (التركيبة) اللغوية/الثقافية بتَبِعاتها السياسية والأمنية والاجتماعية إلى أن جاء الربيع العربي. وهاهم البعض هنا وهناك يحاولون بكل طريقة تأكيد استمرارها وهيمنتها على واقع العرب, لكن الوقائع تطرح شيئاً آخر. كانت ليبيا حتى الآن المثال المفضّل لأصحاب مقولة إن الربيع العربي هو في الحقيقة خريف، وأن المتطرفين والغُلاة استعملوا ملايين المواطنين لإسقاط الطغاة، ثم اختطفوا الربيع ليضعوا مكانهم طُغاةً من نوعٍ آخر. وفضلاً عن السطحية الكامنة في النظرة المذكورة بخصوص التحولات الثقافية الكبرى التي فرضتها ثورة المعلومات والاتصالات على مجتمعاتنا العربية، فإن فيها درجة من التعالي والنخبوية والاستخفاف بالشعوب. ثمة بقايا ضجيج وصخب يقوم به مئاتٌ ممن يعتقدون أنهم يستطيعون احتكار قضايا الشعوب بعد اختزالها في بضعة شعارات بغض النظر عن نياتهم، فالنيات الطيبة لا تصنع الدول والحضارات، وهي حين تكون مصحوبة بجهل مركب تُساهم في إسقاطها. لكن المهم أن هؤلاء لا يُشكّلون قطرةً في مُحيط بشري بدأ يُدرك ما أنجزه، ويُنظّم نفسه للحفاظ على هذا الإنجاز. ستتطلب العملية شيئاً من الوقت بعد عقود التهميش. إلا أن الربيع العربي حقَّقَ تحديداً ما ذكره وليد سيف حين قال: «لكن خطاب القوة والسيطرة يخلق شرط الإمكان لتشكُّل خطابات المقاومة، في لحظات تاريخية مفصلية، تتمكن فيها الأطراف المقهورة من التحرر من إكراهات الخطاب السائد وكشف آليات التحكم والسيطرة التي يمارسها». فبعد أن دفعت الشعوب ثمناً غالياً للتحرر من إكراهات الخطاب الديكتاتوري السياسي السائد، بات مُحالاً عليها أن تقبل بإكراهات تدخل في نفس الإطار ولو تغيرت شعاراتها. وهاهي تُثبت ذلك في ليبيا نفسها أكثر من أي مكان آخر. لم يخفَ على الليبيين أنهم، كشعب، دفعوا الثمن الأكبر في ثورتهم ضد الطاغية، لكنهم كانوا يُقدّرون دور (الثوار) المسلحين في الخلاص منه. من هنا، صبروا على ظاهرة السلاح والمسلحين. وفي حين بقي احترامهم قائماً لمن أدرك دوره من هؤلاء وعاد للانخراط في منظومة بناء الدولة بشكل أو بآخر، إلا أن صبرهم نفد مع الذين تجاوزوا ذلك الدور، حتى لو سموا أنفسهم (أنصار الشريعة). وعندما خرج الآلاف في (جمعة إنقاذ بنغازي) هاتفين (ليبيا.. ليبيا) و(دم الشهداء مايمشيش هباء) ورافعين لافتة تقول (الدم الذي نزفناه من أجل الحرية لن يضيع سدى)، لم يكتفوا بطرد المسلّحين فقط، بل أكدوا أن المظاهرة جاءت لتصحيح مسار الثورة والمطالبة بدعم المؤسسات الرسمية، وأصدروا بيانًا طالبوا فيه المؤتمر الوطني العام بإصدار تشريع يُجرّم التشكيلات المسلحة ويقنن حمل السلاح، وسحب جميع الاختصاصات الممنوحة لأي تشكيل مسلح. المفارقةُ أن صحيفة نيويورك تايمز كانت (تلطمُ) في تقرير مطول لها يتعلق بنتائج الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، وهي تشتكي بأن الهجوم أجبر الإدارة على سحب عناصر كانت ترصد (أنصار الشريعة) تحسباً من أية هجمات محتملة. لا حاجة لمارينزكم وتقنيات رصدكم وألعابكم الإلكترونية يا سادة، فقد باتت شعوبنا تعرف ما يصلح لها وتُدرك أولوياتها، وستتكفل بمهمة التعامل مع الغلاة من أصحاب الصوت العالي. حبذا لو تتأكدوا فقط بأن سياساتكم تقف في صف الشعوب، ولو من باب تحقيق المصالح المتبادلة ومن مدخل تطبيق شعاراتكم المتعلقة بحقوق هذه الشعوب في تقرير مصيرها. هذا كل ما نطلبه منكم، والباقي علينا. ثمة خلطٌ كبيرٌ للأوراق في هذا الموضوع. وهو يُستعمل الآن للتخويف من الثورة السورية، ولتبرير المذبحة التي تُرتكب بحق شعبها بشكل غير مباشر. فلكي تكتمل المهزلة، يطلع علينا نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، يائير نافيه، بتصريحات منذ أيام يتوقع فيها أن يؤدي غياب بشار الأسد إلى حدوث فراغ تملؤه تنظيمات متطرفة من «القاعدة» و «الجهاد العالمي»، تتمركز في مناطق قريبة من إسرائيل وتشن حربها من هناك! لسنا في مقام طرح المثاليات، وندرك أن وجود عناصر من تلك التنظيمات طبيعيٌ في مثل هذه الظروف المعقّدة، وأن هذا يمثل تحدياً على الثورة أن تواجهه. لكن ما يُسمى بـ (التطرف) لن يكون قدر الثورة السورية وطابع مجتمعها ودولتها القادمة. فالتقارير الصحافية والبحثية الغربية تطرح، مرة تلو الأخرى، محدودية الظاهرة خلال الثورة، وقد كان آخرها منذ أيام تقريراً مبنياً على استطلاع رأي أجراه معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى الذي يتموضع للمفارقة في أقصى اليمين الأميركي. ويختم هذا التقرير المنشور بعنوان (بين خصوم الأسد يسودُ الاعتدال) بعبارة تُلخّص نتائجه وتقول: «وتُظهر البيانات بوجه عام أن معظم نشطاء المعارضة السوريين هم أبعد من أن يكونوا متعصبين إسلاميين أو متطرفين. فهم يدعمون بقوة التسامح الديني والمساواة القانونية وحرية التعبير». هذا بالنسبة للواقع الحالي، أما بالنسبة للمستقبل فإن حداً أدنى من المعرفة المُنصِفة بالسوريين وتاريخهم وثقافتهم تُظهر أنهم لن يكونوا أقل وعياً من إخوتهم الليبيين، ولا أقل إدراكاً لما فيه مصلحة ثورتهم الحقيقية، ولكيفية تحقيقها في نهاية المطاف.

الحكومة المؤقتة في سوريا.. أو الطوفان

بعد بضعة أيام من نشر هـذا المقال، يعقد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية اجتماعاً سيكون من أكثر الاجتماعات حساسية في تاريخه وتاريخ الثورة السورية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق. وتنبع خطورة الاجتماع بالدرجة...

الثورة السورية.. وقصة البشرية على الأرض

{وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدماء ونحنُ نُسبّحُ بحمدك ونُقدّس لك قال إني أعلمُ ما لا تعلمون}. بغضّ النظر عن الحشو الذي يملأ بتفاصيله...

عرب المشرق وطوفان إيران

لم يعد ثمة مجالٌ على الإطلاق، وبأي حسبةٍ من الحسابات، أن يسمح عربُ المشرق، ومعهم تركيا، لهذا الطوفان الإيراني أن يجتاح المنطقة بهذا الشكل الصارخ، ليس فقط في قباحته وابتذاله، بل وفي دلالات الموقف الدولي...

الثورة السورية بين مفتي السعودية والقرضاوي

منذ بضعة أيام، صدرت عن الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، مواقفُ نعتقد أنها غير مسبوقة، وأن دلالاتها السياسية والدينية والثقافية تحتاج إلى كثيرٍ من التأمل. خاصةً عندما نفكر بأسبابها من جهة، ومآلاتها...

هل تفهم أميركا الثورة السورية بشكلٍ استراتيجي؟

قلائلُ هم الرؤساء الأميركان الذين يعرفون لماذا وصلوا فعلاً إلى البيت الأبيض, وماذا سيفعلون فيه على وجه التحديد. هذه حقيقةٌ معروفةٌ في أميركا، رغم أن عدد ساسة هذا البلد الذين يحلمون بالوصول إلى أهم موقعٍ...

الثورة السورية والمشهد الإقليمي

ما من شكٍ أن ثوار سوريا على الأرض كانوا ولا يزالون وسيبقون أصحاب القرار الحقيقي، لا نقول فيما يتعلق بمصير الثورة السورية، وإنما في تحقيق نصرها المؤزر في نهاية المطاف. لكن هذا لا يتناقض مع...

الحكومة السورية المؤقتة نقلة في عمل المعارضة

من الممكن جداً أن يكون تشكيل الحكومة السورية المؤقتة نقلةً هامة على طريق تحقيق أهداف الثورة السورية. ثمة مؤشرات عديدة على أن هذا الأمر في وارد الحصول، رغم الشكوك التي يطرحها البعض هنا وهناك. يبدأ...

الحكومة السورية المؤقتة.. حقائق وشبهات

منذ أكثر من خمسة شهور، وفي لحظة تأسيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، كان أعضاؤه يعرفون، ومعهم العالم أجمع، أن الائتلاف هو المؤسسة الأم التي ستتولد عنها ثلاث مؤسسات أخرى أحدُها الحكومة المؤقتة. لم...

تحدي «استقلالية» قرار الثورة السورية

كثيرةٌ هي التحديات التي تواجه الثورة السورية، لكن تحدي الحفاظ على (الاستقلالية) بحساباتها وموازناتها الشاملة قد يكون أكثرهاً خطورةً وأهمية. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الموقع الاستراتيجي لسوريا فإن التعامل مع هذا التحدي كان وسيبقى مهمةً...

الحكومة السورية المؤقتة: لماذا وكيف؟

كلما قلتُ متى موعدُنا ضحكت هندٌ وقالت بعد غد. قد يعبّر هذا البيت من الشعر العربي عن حال الثورة السورية مع معارضتها السياسية. فرغم المحاولات المختلفة للقيام بالدور المطلوب من قِبلها، لا تبدو هذه المعارضة...

«الهجرة» السورية الكبرى

يمكن وصف الثورة السورية بألف طريقة وطريقة، فهي تحمل في طياتها بحراً من المعاني سيأتي قريباً اليومُ الذي تظهر دلالاتهُ الحقيقية للناس. لكن وصف (الهجرة) قد يبدو في هذه المرحلة مُعبّراً عن واقع السوريين أكثر...

سوريا.. ولادةُ وطن

في عددها مطلع الأسبوع الماضي، نشرت مجلة الإيكونوميست البريطانية مقالاً بعنوان «سوريا، موت وطن». وعلى غلاف العدد، وضعت المجلة رسماً من ثلاثة أسطر يُعبّر عن دمار سوريا بشكلٍ تدريجي وصولاً نحو الخراب الكامل. بعدها بأيام،...