هل تجهض التوازنات الثورة السورية؟

على الصعيد الميداني ما تزال الثورة السورية تواصل زخمها، وهناك تطورات كثيرة على الأرض تعكس أن النظام بدأ يفقد السيطرة على المشهد. بعض المدن باتت في شبه المحررة ولم يعد النظام يملك أي وسيلة فعالة للتعامل معها سوى القصف. كذلك يستمر نزيف الانشقاقات في الجيش السوري فقد غادر صفوفه أكثر من عشرين ألف جندي. توجت فاعلية هذه الانشقاقات بتشكيل المجلس العسكري السوري الذي ضم العديد من كبار الضباط. وإلى جانب وهن المؤسسة العسكرية لم يعد الجهاز السياسي محصنا ضد الاستقالات، كما كان قبل أشهر، فالكثير من السياسيين ورجال الدين طلقوا الأسد إلى غير رجعة وأعلنوا انحيازهم لخيار التغيير. لكن كل هذه التطورات الإيجابية بالإضافة إلى العزلة الإقليمية والدولية والمتاعب الاقتصادية ما تزال عاجزة عن التسريع بانهيار النظام، الذي يعول على محورية سوريا في لعبة التوازنات الدولية والإقليمية، كما قال الأسد في كل خطاباته. ولعل قراءة تعاطي القوى العظمى ودول الجوار في الأيام الأخيرة تكشف أن إجهاض الثورة السورية بات أمرا واردا أكثر من أي وقت مضى رغم اتساع رقعة الاحتجاجات ومواصلة النظام الإسراف في إراقة الدماء. سواء انسحب المراقبون العرب أم مددت مهمتهم في سوريا، فإن بشار الأسد قد تزوّد مؤخرا ببعض أسباب البقاء التي قد لا تتأثر سلبا بالموقف العربي في حالة ما إذا اتجه إلى التصعيد. لقد خرجت روسيا علنا من طور المناورة إلى الجد عندما قالت إن سوريا خط أحمر وترجمت ذلك عمليا بمرابطة سفنها العسكرية في المنطقة، وسياسيا بالعزم على استخدام الفيتو ضد أي قرار يدين دمشق. يعني هذا الموقف أن مجلس الأمن لن يستطيع اتخاذ أي إجراء قانوني لمساندة الثورة في سوريا، ما سيكسب الأسد مزيدا من الوقت للبحث عن حلول تبقيه في الحكم. التصلب الروسي هذا سينتقل أثره من مجلس الأمن إلى صفوف المعارضة السورية حيث سيتوجب عليها أن تصغي لموسكو ما دام الغرب وحده ليس قادرا على حسم الأمور. ومن البديهي أن موسكو قد تُفاوض المعارضة على كل شيء إلا رحيل الأسد. إنه الخط الأحمر ذاته الذي تتحدث عنه. موسكو إذن لا تلغي احتمال صدور أي قرار أممي يعجّل برحيل الأسد فحسب، بل توفر له طوق نجاة عبر حل وسط ربما يتعين على المعارضة التعاطي معه بشكل جاد. ولعله من المستعبد لجوء القوى الغربية إلى خيار عسكري لا يدعمه مجلس الأمن، لأن دخول روسيا على خط المواجهة سيزيد من تعقيدات المشهد السياسي في الشرق الأوسط، ويؤدي لا محالة إلى تعطل إمدادات النفط الذي يهم الغرب أكثر من الديمقراطية وحقوق الإنسان. وليست الحسابات الدولية وحدها ما يشل الثورة السورية فالساحة الإقليمية هي الأخرى معقدة ومتشابكة المصالح. إيران تعمل على تطويق الأزمة وقد عرضت مؤخرا -بتفويض من الأسد- على حركة الإخوان المسلمين السورية تشكيل وقيادة الحكومة على أن يبقى الرئيس في منصبه. إنه عرض مغر، ورغم رفضه من قبل الحركة فإنه قد يكون أفضل الحلول لاحقا إذا ما انسد الأفق أمام التغيير. تدرك طهران أن الإخوان أكثر الأقطاب السياسية ثقلا وإذا ما تنازلوا عن مطلب الرحيل فإن الحراك الشعبي قد يفقد بريقه مع الوقت. التوازنات السياسية الإقليمية والدولية إذن هي أكبر خطر يواجه الثورة السورية. وستبقى المصالح الخارجية العامل الأكثر تأثيرا على مسار الأحداث في ظل الخلافات التي تعصف بمعارضي النظام.