


عدد المقالات 189
حدَّث سهم بن كنانة قال : ثارتْ عليَّ أشجاني، وعناني منها ما عناني، فقررت الخروج من الديارْ، وزيارة الرسوم والآثارْ، فلما أشرفتُ على طللْ، تولّى عني المللْ، وطفقتُ أتفكّرُ في مصائر الأممْ، وكيف جرى بهلاكها القلمْ، كم من مصرٍّ على ذنبِه، مات ولم يتبْ إلى ربِه، وكم من دولةٍ انهارتْ، وإمبراطورية توراتْ، وكم من شديدٍ كَلْ، ومن عزيزٍ ذلْ، ومن مستبدٍّ هوى، ومن عاشقٍ برّح به النوى، وكم من ناظمٍ قصائدَ الغزلْ، في بدرٍ غاب أو نجمٍ أفلْ. قال سهم بن كنانة: وبينا أنا سارحٌ بأفكاري، مستشرفاً ما سيرى الناس من آثاري، إذ أقبل عليَّ رجلٌ مهيبُ الخلقة، ذو ملامحَ طلْقة، كأنه شيخٌ في حلْقة، فوقف إلى جانبي وأخذ يحدّق ببصره، فدفعني الفضول إلى استقصاء خبره، وقد هالني ما هو عليه من حسن السمْتْ، وطول الصمتْ، لا ترى فيه من عوجٍ ولا أمْتْ. ولم يطل انتظاري، إذ أخرج من جيبه لفافة تبغ، فدهسها بقدميه وهو يقول: ذلك ما كنا نبغ! فسألته عن القصة، فقال: بل هي الغصة، ولكنها مليئة بالعبرْ، والعقبى والله لمن صبرْ. قلت: قد أسلمتك قيادي، وأصغى إليك فؤادي، والسعيد من تدارك الغفلة، واتعظ بمن قبله. قال سهم بن كنانة: وتنهّد الرجلُ تنهّدَ الثَّكلى، وقال: هذه الدنيا من دون التدخين أحلى، لو تعلم كيف امتُحنتُ به في شبابي، فأتلف مالي وثيابي، بل مزق عقلي وإهابي، حتى عافني أهلي وأصحابي .قلت: كيف أفسدتْ بالك، سيجارةٌ لا أبا لك؟ قال: ابتُليتُ بقومٍ ذوي جهلْ، قاطعين للرحم والأهلْ، لا يعرفون للدين حدودا، ولا للمودّة عهودا، يقضون اليوم في اللهوْ، ويحيون الليل باللغوْ، ويتعاطون أثناء ذلك مئات "السجائرْ"، ويقدمونها لكل زائرْ، حتى إذا بقيَ ثُلُثُ الليل الآخرْ، وورمت الشفاهُ والمناخرْ، نادوا بـ "الشيَشِ" والمباخرْ، وهم بين ضاحكٍ وساخرْ، وأمسوا يعبّون دخانَها، وينفثون أنتانَها، ولو أنك اطلّعتَ عليهم في ذلك المكانْ، الذي أثَّرتْ فيه سُحُبُ الدخانْ، وشممتَ تلك الرائحة، وأبصرت تلك الوجوهَ الكالحة، لرأيتَ منظراً تَحاُر فيه العينْ، ويطربُ له غرابُ البينْ .قلت: كيف استوحلتَ في هذا الوحلْ، واستعضتَ عن الشهدِ بإبَرِ النحلْ؟ قال: الرفقة يابن أخي..الرفقة. لقد كنت أعجب من أهل السجائرْ، وأراهم عُميَ البصائرْ، حتى أغراني قوم بالسيجارة الأولى، فأصبحت بحبِّ الدخانِ مشغولا، وكنتُ كلما جادلتُهم في أمرِه، ساعياً إلى كشفِ سترِه، صاحوا بي: إنه سمْتُ العباقرة، ودأبُ الأباطرة، وبريدُ الإنجازْ، ودليلُ الإعجازْ، وكلما حدثتُهم عن أسقامِه، مؤكداً أسباب اتهامِه، هتفوا بي: بل هو سُّر الرشاقة، ورمزُ الأناقة، وإكسيرُ الرجولة، ووَقودُ الفحولة، وهكذا غدت السيجارة خير جليسْ، والفضل في ذلك لجنود إبليسْ. قال سهم بن كنانة: وشعرت أن الرجلَ صالحُ النشأة، لكنه انغمس في تلك الحمأة، ورُبَّ صالحٍ زلَّتْ به القدمْ، ومذنبٍ بادر إلى التوبةِ والندمْ، فقلت له: ألم تحاول إنقاذ نفسِك، والتحرر من أغلال حبسِك؟ قال: لو فعلتُ لأصبحتُ بين أصدقائي كالغريبْ، ونظروا إليَّ نظرَ المستريبْ، وربما سمَّوني "المطوّعَ" و"الأديبْ"، فعاد أمري إلى الذلة، وطواني كهفُ العزلة، لقد نالني من أذى القومْ، فصرت أدخن أربعين لفافةً في اليومْ، تنقص ولا تزيدْ، وتشتعلُ حتى تبيدْ، وكنت كلما نابني خطبْ، أو مسَّني كربْ، فزعتُ إلى السيجارة، ولثمتها بحرارة، ثم عصرت في صدري تبغها "العريقْ"، وأنا أنتفض انتفاض الغريقْ، فإذا فرغتُ من التمتّع برحيقِها، والتلذّذ بحريقِها، اطفأتُها أو دهستُها، ولسانُ حالي يردّدُ قول ديك الجن : روّيتُ من دمِها الثرى ولطالما روّى الهوى شفتيَّ من شفتيها! تباً لي! كيف استمرأتُ ذلك العبثْ، واستسغتُ ذلك الخَبَثْ، لقد كنتُ أعجبُ من عبادة الأصنامْ، والانقياد للخزعبلاتِ والأوهامْ، حتى رأيتُ صاحبَ الدّخانْ، يقدّسُ لفافة أنتانْ، يالله وللنهى، وسبحان من له المنتهى، كيف يُهلكُ المرءُ نفسَه، ويحفرُ بيديه رَمْسَه، كيف يتهافتُ على البَوارْ، تهافتَ الفراشِ على النارْ، كيف يُدمي رئتيه، ويشوي شفتيه، ويُلوّث أسنانَه، ويُنفّر أقرانَه، فيصبحُ كنافخ الكيرْ، لا حامل المسك والعبيرْ؟ أما نظرتَ إلى إهابِه، ومراتبِ سيارتِه وثيابِه، أتتْ عليها الخروقْ، وانتشرتْ فيها الحروقْ، أما نظرتَ إلى حيائه كيف قلْ، ووقاره كيف اختلْ، وهو يرمي أعقاب السجائر أينما حلْ؟ لقد استبدّتْ بيَ الغفلة، فكنتُ كمن فقد عقله، أنفقُ في التدخين حُرَّ مالي، وأمثّل أسوأ قدوةٍ لعيالي، ووصل بي الإدمان إلى انتفاض يدَيْ، واصطكاك ساقَيْ، وضمور وجنتَيْ، وكان بعضُ الفضلاء يفرُّ مني، أو تؤذيه رائحتي فيصدّ عني، وشعرتُ أني في ضياعْ، وصرت كالبضاعة التي لا تُباعْ، بل تحولتُ إلى حرف امتناعْ، وضعفتْ قدرتي على الجماعْ، وكدتُ أختفي من نحولْ، ولم يبق مني إلا طلولْ . قال سهم بن كنانة: فلما بلغ صاحبي هذا الحد، لم أتمالك نفسي فهتفت: آمنت إيماناً لا تشوبه الظنون، وأيقنت كما أيقن العارفون، أنّ من يشرح للدخان صدرَه، فقد سلّم للشيطان أمرَه، بل هو فسْلٌ لا يساوي بعرة، ثم تنبّهتُ إلى سوء عبارتي فاستدركتُ قائلاً: رحم الله والديكْ، لا يصدُقُ هذا الوصفُ عليكْ .صاح الرجل: لله أبوكْ، بل الصوابُ ما نطق به فوكْ، لكنّ الله سلّمني من هذه الورطة، التي لا تنقذُ منها دولةٌ ولا شرطة، وعدتُ إلى الحياة بعد احتمال الهلكة، كما عادت إلى ماء البحر السمكة، قلت: كيف؟ قال: حاولت ترك الدّخان فما استطعتْ، واجتهدت في تقليل تعاطيه فأخفقتْ، فنمتُ ليلةً فرأيتُ شيخاً سيءَ الريحْ، ذا منظرٍ قبيحْ، لحيتُه كثّة، وملابسُه رثّة، لا يبدو عليه الوقارْ، وله أنيابٌ وأظفارْ، فكأنّه من أهل النارْ، وإذا به يباغتُني كالإعصارْ، ويمطرُني بوابلٍ من أحجارْ، فحاولت الفرارْ، لكنّه تبعني بإصرارْ، ورشق أولادي الصغارْ، وبدا لي أنه غولٌ يريد قتلي، والتهامَ أبنائي وأهلي، وكنتُ ضعيفاً أمام بأسِه، كعصفور يترنّح في حبسِه، واستيقظت من النوم فزِعاً وأنا أغمغم :هو التدخينُ لا غيرْ، ومتى ظفر المدخّنُ بخيرْ؟ قلت: وماذا بعد؟ قال: عدتُ إلى النوم، فرأيت أنّي في يوم عيدْ، والاحتفالاتُ تملأ الحضَرَ والبيدْ، وكنت لابساً ثوباً جديدا، ومُعتمراً شماغاً فريدا، ولما حمدتُ الله على اللباسْ، وهممتُ بالخروج إلى الناسْ، شعرت أن في جيبي ورقة، كأنّها لصِغَرِها علقة، ففتحتها فإذا مسطورٌ فيها هذه الأبيات : هيَ يا صاحبي ضياعُ الأمانِ واستعارُ الجوى وموتُ الأماني واصفرارُ الذبول يغشى المحيّا واختلاطُ الأشباهِ والألوانِ تقتلُ الطيبَ: طيبَ علمٍ وفضلٍ ثم طيبَ الشذى ورَوْحَ الجِنانِ هيَ يا صاحبي المصائبُ تترى من بلاءٍ ولوعةٍ وافتتانِ ثم تبقى مكبلاً وحسيراً وأسيراً لحزمة من دخان لا تجيدُ الحديثَ إلا سعالاً يتهادى على رفاتِ البيان يا صديقي فلتسمعِ اليوم نصحي أو ستردى في هوّةِ الإدمان ارمِها تائباً وأطفِ لظاها وأبدْها لفائفَ الشيطان استعنْ بالدعاءِ ما ضلَّ ساعٍ مُخبِتٌ في عبادةِ الرحمن أنت بالله أمةٌ من عطاءٍ أنت بالله واحةٌ من أمان انتفضْ يا أخي بعزمة حرٍّ هيَ أو أنت في غمارِ الطّعانِ قلت: وماذا حدث بعد ذلك؟ قال: تركتُ هذا البلاء، بلا تدرّجٍ ولا دواء، واشتغلتُ بالصلاة والذكر، ورياضة البدن والفكر، وصاحبتُ ثلّةً من ذوي الألباب، والكرم اللباب، والدعاء المستجاب، فنالني منهم عبير الورد، وأريج الند، واكتشفت كذب "العراقة"، وزيف الدعاوى البراقة، وعادت إليّ "الطاقة"، وعُوفيتُ من الحماقة، وكنت "مُعسِرَ بن مسحوقْ"، فأصبحت "مُوسِرَ بن مرزوقْ"، وعزمتُ على مناصحة المبتلى بهذه السمومْ، فإن ارعوى وإلا هجرتُه هجرَ المجذومْ. قال سهم بن كنانة: هلّا أخبرتني من تكونْ، فإنّني بك اليوم مفتونْ، قال: أنسيتَ من صَحِبك صغيرا، وحفظ ودّك كبيرا؟ قلت: العزاز أبو نصرْ؟ فصاح: نعم والذي فلق العصرْ، فاستلمتُ عمامته، وطفقتُ أقبّل هامته، ثم شكرتُ فضلَ ربّي، وأنا أردّد قول المتنبّي: على قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ وتأتي على قدرِ الكرامِ المكارمُ وتعظُمُ في عينِ الصغيرِ صغارُها وتصغُرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ *أستاذ الإعلام السياسي بجامعة الملك سعود https://twitter.com/LoveLiberty
نحن الموقّعين أدناه نعتذر إلى الإنسانيّة عن تاريخنا؛ عن ثقافتنا المفخّخة بالعنف؛ عن سيرة أجدادنا الملّطخة بالدماء. نعتذر عن ما كانوا يسمّونه «الفتوح الإسلامية»، وما كانت سوى عمليات غزو واسترقاق، وإجبار للسكان الأصليين على دفع...
في البدء كانوا مجاهدين، ثم صاروا فدائيين، ثم مقاومين، وتدريجاً أصبحوا مسلّحين، فكان طبيعياً أن يصبحوا في نهاية اليوم، «إرهابيين»، ثم يُسدل الستار على الفاجعة، ولمّا تنته. يصبح الإسرائيلي ضحية، وتصبح أفعاله دفاعاً عن النفس...
اليمن تاريخياً بلد واحد غير مقسّم، والتقسيم إضعاف لهذا البلد، وتشتيت لشعبه، وفتح أبوابه لتدخّلات عسكرية وقواعد أجنبية واضطرابات وحروب قد تكون أسوأ من وضعه إبّان الانفصال القديم في الستينيات والسبعينيات. وبينما يتّجه العالم إلى...
حدّث سهم بن كنانة، قال: كان في القرن الخامس عشر بجزيرة العرب، رجل يزعم أنّه واحد دهره في الأدب، وأنّه أدرك من أسرار البيان، ما لم يدركه إنسٌ ولا جان، وقد اشتُهر بابن الغلامي، أو...
علّمونا ونحن صغار أنّ «الصمت من ذهب»، وكان جدّي لأمّي يكرّر لي البيت: يموت الفتى من عثرةٍ من لسانِهِ/وليس يموت المرءُ من عثرة الرّجْلِ، وقديماً قال جدّنا أكثم بن صيفي: «الصمت حُكمٌ وقليلٌ فاعله». كبرنا،...
قبل الاستفتاء على التعديلات الدستورية في تركيا، وأثناءه وبعده، لم تتوقف جريدة الحياة اللندنية عن الهجوم على الحكومة التركية. كانت هذه الصحيفة معروفة إلى عهد قريب بحرصها على عدم إبراز أيديولوجيتها، وباستقطابها كتّاب رأي ليسوا...
كان يا ما كان، في آخر الزّمان، أنّ رجلاً كان مريضاً فتعافى، فغضبت عجوزٌ كانت ذات يوم سبباً في إمراضه حتى مزّقته إرباً إرباً، وطفقت تولول وتشقّ جيبها، وتدعو بالثبور، وعظائم الأمور، فلم تكن تتوقّع...
حدّث سهم بن كنانة، قال: في أواخر القرن الرابع عشر، قبل أن تُولد الفضائيات وتنتشر، ظهرت في جريدة اسمها «اليوم»، قصيدة أثارت كثيراً من اللوم، وكانت متحرّرة القوافي، واسم كاتبها حميد غريافي، وقد جاء في...
تسعى الخطابة السياسية عادةً إلى توحيد المواقف، وردم الفجوات، والتركيز على القواسم المشتركة. هذا هو لبّ الخطابة وفلسفتها عبر التاريخ: الدعوة إلى «التعاون»، وإحياء الروح الجماعيّة، وتغليب المصلحة العامة على الخلافات البينيّة. لكنّ ذلك لا...
كنّا نعرف أنّ «تحرير» الموصل، ثاني أكبر مدن العراق، من قبضة تنظيم داعش سيكون دامياً، وكنّا نترقّب فقط مشاهد القتل الجماعي لأهل تلك المدينة بحجة تحريرهم من الإرهاب. لكن لم نكن نتوقع أنّ المجازرستثير في...
حدّث سهم بن كنانة، قال: اعتراني ذات يوم السأم، وشعرت بأنواع الألم، وجفا عينيّ الكرى، وعادت صحّتي القهقرى، فراودتني الرغبة في الخروج، والاستئناس بين المروج، ودُللتُ على قرية تُسمّى «سراج»، شعارها «لدينا كلّ ما تحتاج»،...
كان الرئيس التركي، أردوغان، محقّا في اتهامه عدداً من دول الاتحاد الأوروبي بالارتهان للفاشية والنازيّة إثر إلغاء ألمانيا عدداً من التجمّعات الانتخابيّة التي كان من المقرّر أن يحضرها وزراء أتراك في مدن ألمانيّة، ومنع هولندا...