رمضان من جانب آخر

لست في مقالي هذا من الواعظين، فالوعظ فن له رجاله، ومهنة لها صناعها، ولكني في ظل هذه الأيام والليالي المباركة ومع كثافة الحديث حول الجانب الإيماني لرمضان والعبادات التي بها يعرف وجدت سؤالاً في نفسي قد اختمر، ماذا عن الجوانب الأخرى لرمضان، رمضان الاجتماعي، ورمضان الاقتصادي, ورمضان التربوي وغيره من الرمضانات التي نغفل عنها، حيث تركيزنا منصب كما يجب على العلاقة مع الله عز وجل. فالإسلام كما نعلم ليس ديناً كهنوتياً ينزوي في المساجد ويترك الحياة تسير بمادية بحتة إنما هو عبادة ومعاملة، فذات الدين الذي يدفعنا للتعبد والصلاة يدير كذلك علاقاتنا البشرية ويوجه تعاملاتنا اليومية. فماذا إذاً عن رمضان من هذه الجوانب الأخرى. اجتماعياً رمضان في أيامنا له دور كبير في تكثيف علاقات العائلة والجيرة، فمع التغير التدريجي لمجتمعاتنا نحو المادية وامتداد ساعات العمل قلت فرص الالتقاء العائلي فأصبحت المنازل كما يحلو لوالدي تسميتها أسراً فندقية يعود الفرد من عمله أو دراسته ليجد طعامه وضع جانباً يغترف منه ما شاء منفرداً، ولكن رمضان يعمل عمل الصمغ للعائلة فتعود لتجتمع على الفطور ومن بعده على جلسة عائلية ليكون وقت الفطور هو ركيزة اليوم. يضاف إلى ذلك أن زيادة وتيرة الحضور للمساجد وتبادل الأطباق يعيد تحريك عجلة العلاقات الاجتماعية في الحي، فيتعرف الجيران الجدد على أفراد الحي، وتتواصل النساء من خلال التبادل الغذائي. رمضان هو الشرارة الاجتماعية التي تحرك مجتمعنا الصغير طيلة العام. اقتصادياً نعاني من أزمة حقيقية في رمضان، فبدلاً من أن يكون رمضان شهراً للابتعاد عن مظاهر الترف والماديات والاقتراب من مفاهيم العطاء تحول الشهر إلى موسم تجاري الطرف الوحيد الرابح فيه هو التاجر الذي يبيع كل ما لديه من مأكل وملبس خلال الشهر أو في فترة الاستعداد له، فمن المواد الغذائية مروراً بالأواني المطبخية والملابس الخاصة باحتفالات الأطفال على مختلف مسمياتها وانتهاء بمشتريات العيد يمثل رمضان عبئاً مادياً كبيراً على العائلة، وهذا الصرف المبالغ فيه يفقد رمضان معناه الأساسي وهو التكافل مع من هم في حاجة، أكاد أجزم أن ما يزيد من طعامنا في رمضان لو جمع لأنهى مشكلة المجاعة في القرن الإفريقي، ولو قسمنا بالنصف مصاريف العيد والكماليات التي نشتريها في هذا الموسم لكفى الشطر حاجة اللاجئين في بورما وسوريا من مأكل وملبس. لا ننكر هنا أن حصيلة التبرعات الرمضانية من زكوات وغيرها تفوق بمراحل ما يقابلها في بقية أشهر السنة, ولكن لا بد أن نجد حلاً لهذا الإسراف الذي أفقد فكرة رمضان بريقها, وأخشى أن يتحول كما تحولت مناسبات مماثلة في ثقافات أخرى إلى موسم استهلاكي ليس إلا. تربوياً يزخر رمضان بالمعاني التي لا بد أن نوصلها إلى أبنائنا وبناتنا بوعي تام لذلك، فالكثير منا يغفل عن التواصل مع الأبناء لإفهامهم فكرة الصوم وأنه ليس مجرد امتناع عن الأكل والشرب ولكنه ثقافة متكاملة من تجنب كل محرم والاقتراب من كل محبب حتى يكون تدريباً لنا لما يجب أن نتبعه في بقية العام. أتضايق من حرص بعض الآباء والأمهات على أن يفطر أبناؤهم حتى إن أصروا على الصوم، الأطفال بطبيعتهم يسعون إلى تقليد الكبار،وهذا يساعد على بناء شخصياتهم المستقلة لذلك علينا احترام قرار الأطفال بالصوم وغض البصر عن حالات الإفطار السرية التي يلجأ إليها بعض الأطفال هنا وهناك. حدثتني زوجتي أن والدها سبق أن اصطحبها إلى بيت عائلة محتاجة وطلب منها أن تدخل وفي يدها مبلغ من المال لإيصاله إلى ربة الأسرة، وحقيقة مثل هذا التصرف مهم مع الأبناء، فمثلا حين تكون في مجمع تجاري تذكر أن تعطي أبناءك مبلغاً من المال ليضعوه في صندوق التبرعات بأنفسهم حتى تتعود أيديهم على العطاء. كانت هذه خواطر بسيطة حول رمضان، ذلك الموسم الماراثوني الذي يمثل دورة مكثفة في نمط الحياة المثالي من كل الجوانب، رمضان أراده الله لنا مدرسة نتخرج منها لندير بقية العام بنجاح، لذلك علينا أن نجتهد في دراسة النموذج الذي وضع لنا لا أن نغش فيه من خلال تحويله إلى موسم للكسل والترف والإسراف. هي أيام وينقضي رمضان، فهل ستكون من أولئك الذين يخلعون القميص الرمضاني بعد انتهاء الموسم، أم ستكون من أولئك الذين يترك رمضان فيهم نوراً لا ينطفئ إلا بعودة رمضان ليعيد إشعاله.. كل عام وأنتم بخير.