الأسد.. من الوهم إلى التناقض

من الواضح أن الأحداث السورية رغم ضخامتها ودمويتها لم تزح غشاوة الوهم عن الأسد، فما زال فخامته يعيش في الماضي ويعتقد أنه الزعيم الضرورة والقائد الخالد. تسعة أشهر من الثورة وآلاف الشهداء والجرحى ولماّ يدرك الرئيس مطلب الجماهير الملح. وعد بالإصلاح -العنوان العريض لكل خطبه- وإشراك المعارضة في الحكومة وتعديل الدستور والانتخابات. كل هذه المواضيع مهمة لكن نسي الرئيس أن الناس خرجوا لمطالبته شخصيا بالرحيل وليس لسماع كلمة رتيبة عن الإصلاحات التي جربوا عدم جديتها طيلة أحد عشر عاما. يقول بشار إن كل شيء في سوريا سيئ إلا شخص الرئيس، فليس مسؤولا عن إفقار الحكومة للشعب ولا قتل المتظاهرين في الشوارع واغتيال المعارضين ونشر الرعب والخوف، لذلك ليس معنيا بالتغيُّر. كان من المفترض أن يكوّن الرئيس نظرة عن طبيعة الأحداث لأنه لم يغادر البلد منذ أشهر لكن المحيطين به على ما يبدو استطاعوا حجب الحقيقة عنه، لعله لا يشاهد غير التلفزيون السوري، فلا تزال المؤامرات والعمالة للخارج والإرهاب الخطوط العريضة لخطاباته. ما لم يتعاط الرئيس جديا مع إصرار الجماهير على مغادرته السلطة تبقى مخرجاته الإعلامية مكابرة وأحاديث عامة لا تعني الشارع المنتفض في شيء. في الحقيقة من الصعب على بشار بحكم تربيته التي تختزل سوريا في عائلة واحدة وحزب واحد أن يلبي نداء الشارع ويرحل عن الحكم. لكنه بالغ في الاستهتار بإرادة المنتفضين، فقد كان بإمكانه تهدئة الغاضبين بالإعلان عن نيته المغادرة بعد أشهر أو عام لحين تنظيم انتخابات. الوهم إذا المكون الرئيسي لخطاب الأسد تماما مثل حالة القذافي الذي ظل يصدق أن الجماهير ستموت دونه إلى أن أمسكت به الجماهير ذاتها في أنبوب صرف. كذلك، وقع الرئيس أثناء خطابه في جملة من التناقضات، حيث قال إن سوريا ترحب بالزخم الشعبي الذي يجتاح المنطقة لأنه سيعزز موقفها الممانع. لم يفكر الرئيس في هذه الجزئية من الخطاب فكيف يمكن لسوريا أن تؤمن بتحرر الشعوب وهي التي يقتل فيها الناس عمدا كل يوم بالعشرات لأنهم طالبوا بالديمقراطية والتغيير. عاد الرئيس لشرح هذا الموقف المناقض للواقع بالقول إن لكل بلد ظروفه، فما حصل في الدول العربية التي تخلصت من الدكتاتوريات لا يمكن تطبيقه في سوريا دون أن يذكر مبررات استثنائها من التغيير وما يميزها إيجابا عن مصر وتونس وليبيا واليمن. موقف سوريا من الثورة يناقض واقعها بشكل صارخ إذن، فدمشق تستبشر خيرا بالحراك الشعبي العربي بشرط ألا ينالها منه نصيب. يعيد الأسد إنتاج سياسة التناقض التي طبعت علاقة سوريا بالمقاومة، حيث دعمتها في لبنان وفلسطين في وقت يشعر جنود إسرائيل بالاطمئنان وهم في الجولان على مرمى حجر من قواعد الجيش السوري الذي يسمى حماة الديار. الخطاب إذا عبارة عن مشهد من التناقضات والأوهام، لا أقل ولا أكثر. يبقى على المعارضة السورية والجامعة العربية إدراك أن تدويل الثورة السورية هو ما يتمناه النظام، حيث سيتيح له مجددا توظيف ترهات الممانعة والتصدي لغطرسة الغرب. على الجامعة العربية أن تدعم الثورة السورية بدفع شقي المعارضة (هيئة التنسيق والمجلس الوطني) للتوافق وتضييق الخناق الاقتصادي والدبلوماسي على الأسد حتى يواصل نظامه الانهيار. قد يخدم التدويل الثورة السورية في حالة إحالة ملف الأسد إلى الجنائية الدولية وملاحقته كمجرم حرب، ما سيدفع بعض معاونيه للتخلي عنه هربا من نفس المصير. لكن التدخل العسكري الأجنبي سيشوه الثورة ويعيد القوات الغربية للمنطقة التي أخرجتها قبل أسابيع فقط ومن شأنه أن يرهن إرادة سوريا عقودا طويلة للخارج.