هونج كونج.. من الشرق إلى الغرب

زرت خلال الشهر المنصرم إقليم هونج كونج الصيني في زيارة هي الأولى بالنسبة لي إلى هذا الإقليم، الذي يعتبر واحدا من إقليمين فقط يتمتعان بحكم ذاتي بعيدا عن الهيمنة المباشرة للحكومة الشيوعية الصينية. يأتي ذلك نتيجة لكون هونج كونج آخر الأقاليم انضماما إلى الوطن الأم بعد احتلال دام قرنا ونصف القرن من قبل التاج البريطاني، حيث إن الأسطول البريطاني رسا على شواطئها في بداية حملة انتهت بهزيمة الإمبراطورية الصينية على يد الإنجليز ضمن ما سمي بحرب الأفيون. في أواسط القرن الثامن عشر نشط البريطانيون في تصدير الأفيون الذي كانت تنتجه المستعمرات البريطانية في شبه القارة الهندية إلى الصين، مما تسبب في وباء من إدمان المخدرات أفسد الحياة الاجتماعية في المدن الرئيسية في الإمبراطورية مترامية الأطراف، وبعد أن عين الإمبراطور مديرا لإقليم جوانزوا ليتولى مهمة إيقاف تصدير الأفيون وتطبيق حكم الإعدام في حق عدد من المهربين الإنجليز، نشب صراع بين الحكومتين انتهى بقيام الحرب سالفة الذكر والتي انتصرت فيها بريطانيا فارضة بذلك السماح ببيع الأفيون الإنجليزي عبر الموانئ الصينية وسيطرة التاج على منطقة هونج كونج. بقيت هونج كونج في يد الإنجليز حتى عام 1997 عندما شهد ولي العهد البريطاني تسليم الإقليم إلى الصين في حفل مهيب مثّل نهاية لعصر النشأة والازدهار في هونج كونج. الصينيون كانوا أذكى من أن يقوموا بفرض كامل هيمنتهم على الجزيرة وتوابعها، حيث أقروا النظام الإداري الذي خلفه الإنجليز من خلال مجلس منتخب للتشريع وسوق حرة وعملة خاصة هي دولار هونج كونج. هذا التصرف الحكيم حافظ على ازدهار هونج كونج التي يعتبر سعر العقار فيها من الأعلى عالميا، كما ضمن كذلك انتقالا هادئا لم تشبه أية توترات مع شعب الإقليم. هونج كونج مزيج بين ثقافتين، فرغم خضوعها للحكم الإنجليزي لحولي 150 عاما، فإن الثقافة الصينية ما زالت هي الغالبة، فبشكل غير متوقع معظم أهل الإقليم لا يتكلمون الإنجليزية بطلاقة، بحيث توزع الفنادق كروتا وخرائط يصطحبها السائح معه مكتوبة باللغتين الإنجليزية والصينية حتى يتمكن السائح من التواصل مع سائق الأجرة وغيره. وتجد أن الثقافة الصينية بآلهتها ومبانيها ورسوماتها تزين مختلف مناطق هونج كونج في صورة مميزة تعكس جذور هذا الشعب الحضارية، ولكنك رغم ذلك تجد نظاما إداريا إنجليزيا تقليديا ومباني من الطراز الاستعماري وتواجدا كثيفا للإنجليز والأوروبيين في كل مكان، حتى إن عميد كلية العلوم الاجتماعية في جامعة هونج كونج أميركي ومعه كثير من المسؤولين في القطاع الخاص. الحركة في هونج سهلة جدا، فابتداء مساحة الإقليم صغيرة جدا بحيث لا تتجاوز 1104 كيلومترات، وتتمركز الحياة على ضفتي المضيق بين وسط هونج كونج ومنطقة كاولون على الضفة الأخرى. العبّارات تحملك من ضفة إلى أخرى بما يساوي ريالا واحدا وفي أقل من نصف وقت الانتقال بالسيارة عبر الجسور ونظام القطارات الذي يشكل عالما تحت الأرض ينقلك حيثما شئت متى شئت. هناك جالية مسلمة صغيرة تتكون في الأساس من مهاجرين من شبه القارة الهندية وبعض العرب والأفارقة، ويجتمعون في عدد من المساجد أكبرها هو مسجد كاولون الجميل الذي يقع في قلب المنطقة التجارية وعلى طرف حديقة كاولون الرئيسية، ويمثل معلما بارزا للزائر حيث يستقر على ناصية شارع تجاري رئيسي. المسلمون حسب أحد الطلاب الباكستانيين في جامعة هونج كونج تواصلهم محدود خارج إطار الصلاة والأعياد، فقليلة هي المؤسسات التي تمثل المسلمين في هونج كونج. أكثر ما يميز هونج كونج عن بقية أقاليم الصين هو درجة الحرية التي يتمتع بها سكان الإقليم، فالصحافة تنتقد علنا مواقف الحكومتين المحلية والمركزية، والمظاهرات والاعتصامات مظهر يومي بشكل غير معهود في الوطن الأم. ولعل هذا هو أحد الأسباب التي دعت إلى عدم قبول الجيش الصيني مجندين من الإقليم حتى يومنا هذا، متعذرين بوجود إشكالات قانونية تحول دون ذلك على ذمة قائد حامية الإقليم الذي يقود فرقة من الجنود من الصين لا ينتمي أي منهم إلى الإقليم. هونج كونج نموذج فريد لتمازج شرقي غربي راسخ في جذوره الصينية وبأفرع ممتدة للعالم كله، وها هو الإقليم لا يزال يتربع على عرش العواصم الاقتصادية الكبرى عالميا، رغم أن الإقليم يفتقر إلى مصادر الدخل الطبيعية، فهو معلم سياحي تجاري أوروبي كبير في وسط بحر الصين الأحمر.