alsharq

أحمد بن راشد بن سعيّد

عدد المقالات 189

صناعة الخداع: الخنازير خيول.. والثورة «حرب أهلية»!

03 أبريل 2013 , 12:00ص

في سوريا روايتان للصراع. إحداهما، وهي السائدة، أن ثورة شعبية من رحم الشعب، تنتظم البلاد ضد نظام قمعي بمؤسساته "الأمنية" وتغوله في كل مفاصل الحياة والمجتمع، والثانية أن "حرباً أهلية"، مدفوعة بالطائفية، يحتدم أوارها، وتأتي على الأخضر واليابس. كل رواية تخدم طرفاً. الأولى بالطبع تعبّر عن أشواق السوريين إلى الحرية، وانفجار غضبهم على آل الأسد الذين استباحوا البلاد والعباد على مدى نصف قرن، والثانية تصب في خدمة دعاية هذه العائلة ومؤسساتها وأشياعها في سوريا ولبنان. روايات الصراع ليست مجرد كلام. عندما تكون ثورة، فإن الشعب يستحق التعاطف معه والانحياز إليه من أجل تلبية أشواقه في التغيير، ما يعني أن "المجتمع الدولي" مطالب بتدخل ما لوقف نزيف الدم، وردع المعتدي (النظام الحاكم) بطريقة أو بأخرى. لكن السيناريو يختلف عندما تكون حرباً أهلية، إذ يستوي عادة الجلاد والضحية، ويُعاملان تقريباً على قدم المساواة. هذا الوصف أطلقه الغرب على عدوان الصرب في البوسنة مطلع التسعينيات ليبرر وقوفه على "الحياد" فيما زعم، وقد عبر عن ذلك بوضوح وزير الخارجية البريطاني آنذاك، دوغلَس هيرد، عندما قال إنه "لا توجد أيدٍ نظيفة في هذه الحرب"، وتكرر الخطاب عينه في دوائر صنع القرار في أميركا وأوروبا، وجرى التشديد مرة إثر مرة على عدم نجاعة أي تدخل في "حرب أهلية لا يُعرف فيها من يقتل من"! المشهد في سوريا لا يختلف كثيراً عن البوسنة، بل إن أوجه الشبه مثيرة بين المأساتين بشكل لافت يذكرنا بمقولة: "التاريخ يعيد نفسه". تسمية هذا المشهد باسمه الحقيقي (الثورة) يعني شرعية مطالب الجماهير ووجوب الوقوف مع هبّتها. تسميته بالحرب الأهلية يعني حالاً "غير ثورية"، تتسيّدها الفوضى والعنف والاحتراب الأهلي بالغ التعقيد. وإذا أضيف إلى ذلك مسمى "الطائفية"، فإن الحرب تكتسب بعداً مجنوناً وعبثياً، يجعل التفكير بالتدخل ضرباً من العدمية لا يفضي إلا إلى مزيد من القتل، فكأن "المتدخل" يعمي العين من حيث أراد تكحيلها. الثورة هي التوصيف الموضوعي لما يجري في سوريا منذ منتصف شهر آذار (مارس) 2011. من درعا انطلقت شرارة الثورة عندما هبّ أطفال كالورود معلنين رفضهم للتغول الأسدي الذي جثم طويلاً على صدور السوريين. وبعد ستة أشهر من التظاهرات السلمية اتجهت الثورة، مرغمة تحت آلة البطش، إلى العسكرة. في حمص، وفي بابا عمرو تحديداً، كانت نقطة التحول. أيقن السوريون حينها، وقد كانوا يعرفون من قبل، أنه لا مفر من اللجوء إلى السلاح للدفاع عن النفس. لا يراودني شك ألبتة أن معظم السوريين يدركون أن ما تشهده بلادهم ظاهرة ثورية نقية عفوية انفجرت كالبركان بعد عقود من القهر لم يعرف لها التاريخ العربي الحديث مثيلاً. وكانوا يدركون أن الطريق لن تكون سهلة، وأن التضحيات ستكون جمة. خرج بشار الأسد مطلع الثورة ليهمهم: "طائفية". كان يريد ترويج رواية "الحرب الأهلية"، وربطها بتقسيم المجتمع وفق خطوط الطائفة. من وظائف الخطاب السياسي "التفسير والربط". كان بشار "يفسر" الثورة بطريقته، ويربطها بسياقات تخدم أجندته. وكما يحدث عادة في الخطاب السياسي، يخرج مسؤول آخر من نظام المستبد ليقدم "تفسيرات" تؤكد ما قاله الزعيم، وتوحي بأن تصريحه كان ذا مغزى. بثينة شعبان خرجت أمام الكاميرات لتروج لرواية "الطائفية"، رغم أن أحداً من المتظاهرين السلميين وقتها (وحتى بعد العسكرة) لم يظهر ما يوحي بالطائفية. غير أن تشديد آلة الدعاية الأسدية على "طائفية" الصراع لا يجسد سوى القلق الذي يستبد بآل أسد، وشعورهم بأن الأغلبية في سوريا قد ضاقت ذرعاً باستلابها وقهرها بذرائع مصطنعة (الخوف من الطائفية، الحاجة إلى المقاومة والممانعة)، وكأن هذه الأغلبية ترد على عصابة الحكم بالمثل العربي: "رمتني بدائها وانسلت"! تعني رواية "الحرب الأهلية" أن الجماهير الثائرة غير سويّة وغير عقلانية وتصدر عن أجندة معادية للوطن. كان الأسد يسعى من خلال ضخ الرواية إلى التهديد بها، وجر البلاد إليها، فإما هي، وإما هو. إن مصطلحات مثل "الحرب الأهلية" و "الطائفية" و "الإرهاب" تهدف إلى نزع الشرعية عن الثورة، وتهميش الثوار وعزلهم. حتى عسكرة الثورة لم تحدث إلا بعد ستة أشهر من احتجاجات سلمية كانت تتعرض لإطلاق النار، ويسقط فيها شهداء بالعشرات يومياً. كانت الدعاية الأسدية تردد أن التظاهرات غير سلمية، وأنها تطلق النار، وتستفز الجيش للدفاع. أسطورة صنعها الأسد وحاول ترويجها، ثم تحققت بالفعل. كان الأسد يخافها، ولكنه كان يتوقعها، ويعرف أنه لا مناص منها في النهاية. إنها أسطورة "العصابات المسلحة" التي ستعطيه الذريعة للانقضاض على الشعب وذبحه وتهجيره. رفض الدكتاتور كل المطالب المشروعة للثورة بربطها بالطائفية، وبجماعات مندسة سلفية إرهابية قاعدية، ونظر إلى الثورة بوصفها عدواً يجب سحقه بأي ثمن، ومهما طال الوقت، معرضاً عن أي نداء للسير ولو خطوة نحو منتصف الطريق. ارتبك "المجتمع الدولي" في تعامله مع الثورة. أظهرت واشنطن وحلفاؤها تعاطفاً حذراً معها، لاسيما أنهم نظروا إليها في سياق "الربيع العربي" الذي أصاب دوائر صنع القرار الغربي بالصدمة. لم يصدق الغرب الدعاية الأسدية وسخر منها، ولكنه في الوقت نفسه لم يفعل شيئاً لحماية الشعب من القتل. وعندما شرعت الجامعة العربية والأمم المتحدة في "التوسط" وإرسال المندوب تلو الآخر، اتضح أن "المجتمع الدولي" بدأ يتبنى رواية "الحرب الأهلية" ويتعامل مع "الأزمة" من منظورها، لأنها تريحه وتخفف العبء عن كاهله. مادامت صراعاً على مكاسب ونفوذ، فلا مفر من التفاوض بين "الأطراف المتصارعة"، والوصول إلى "حلول توافقية" مع الحفاظ على بنية المؤسسة الحاكمة وإعادة الأمن والنظام إلى البلاد. تكرر توصيف "الحرب الأهلية" في الصحافة الغربية، وأشار إليه مراراً كوفي عنان ولخضر الإبراهيمي، لأنهما يعرفان أن هذا ما يداعب هوى "المجتمع الدولي" ويريد أن يسمعه. المشكلة أن تأتي الطعنة من قريب، كما في اللقاء الذي أجرته صحافية عاملة في صحيفة الرياض مع الشيخ عبد الله بن منيع، عضو هيئة كبار العلماء في السعودية. ويُظهر تسجيل اللقاء أن طرح الأسئلة على الشيخ كان ساذجاً، ويشي بضحالة السائلة، وافتقارها إلى المهنية، ومحاولتها المكشوفة "تلقين" الشيخ الجواب. سألت الشيخ: "أنت عارف... "الربيع العربي" أو الخريف العربي..فيه الآن بتويتر اللي جالس يطلع فتاوى للجهاد في سوريا..أوكي؟ هل هناك جهاد في الحروب الأهلية؟". رد الشيخ مؤكداً صيغة السؤال قائلاً: "ينبغي للإنسان في مثل هذه الحروب الأهلية..."، ثم ربط في سياق اللقاء هذه الحروب بالفتن مؤكداً أن "الشرع يسعى لإخماد الفتن". صحيفة الرياض قوّلت الشيخ ما لم يقل في جانب، وأثبتت عليه من جانب آخر أقوالاً لا يستطيع نفيها. كان عنوان اللقاء مثلاً مضللاً، فالشيخ لم يقل: "ما يحصل في سوريا وبلاد الثورات حروب أهلية لا جهاد بها". هذا كان فقط "تفكير" الصحيفة، واستنتاجها. الشيخ، وإن وصف عرضاً ما يجري في سوريا بأنه "حرب أهلية"، و "فتنة"، وهو أمر مؤسف، إلا أنه لم ينص على أنه ليس جهاداً، كما أنه لم ينتقد تحديداً "دول الثورات". نفى الشيخ فيما بعد وصفه الجهاد في سوريا بالحرب الأهلية مؤكداً أن الشعب السوري مظلوم، وأنه في جهاد مشروع، وعلى المسلمين نصرته، بحسب ما نقلت عنه صحيفة سبق. لكن الضرر وقع. وطارت مواقع شبيحه الأسد وماكينة دعايته بالفتوى، واحتفلت بها فضائيات "العالم" و "المنار" و "روسيا اليوم" وغيرها. موقف محزن حقاً، ويؤكد الحاجة إلى نقد الذات وتصحيح المسار، سواء لدى مروجي روايات "الحروب الأهلية" و "الخريف العربي"، أو حتى لدى علماء الدين الذين ينبغي أن يدركوا خطورة تصريحاتهم، وأن يستعينوا بمستشارين متخصصين، ويعيدوا النظر في تعاملهم مع صحافة تتراجع صدقيتها وتبحث فقط عما تشتهي سفنها. اللغة ليست بريئة. إنها انتقائية ومؤدلجة. وقد درجت النخب وقوى النفوذ في الحكومات والميديا على إنتاج سلسلة من المفردات بهدف الاستتباع وصناعة القبول، وقمع أي محاولة لسبر أغوار اللغة. في مستهل ما وُصف بـ "الحرب على الإرهاب"، وتحديداً في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2001 صرح جورج دبليو بوش أن "أفضل السبل للدفاع عن وطننا..؛ أفضل السبل للتأكد أن باستطاعة أطفالنا أن يعيشوا في سلام، هو نقل المعركة إلى العدو وإيقافه". الحرب إذن هي أفضل سبيل للسلام. ويعلق الأكاديمي الأميركي إرين مكارثي ساخراً على ذلك بالقول: "..ها نحن نعرف الآن، الخنازير خيول، البنات بنون، والحرب سلام". رواية "الحرب الأهلية" في سوريا ليست إلا أنموذجاً على توحش اللغة الذي يرسم مشهداً زائفاً، ويقود، في التحليل الأخير، إلى مقاربة خاطئة. *أستاذ الإعلام السياسي بجامعة الملك سعود https://twitter.com/LoveLiberty في سوريا روايتان للصراع. إحداهما، وهي السائدة، أن ثورة شعبية من رحم الشعب، تنتظم البلاد ضد نظام قمعي بمؤسساته «الأمنية» وتغوله في كل مفاصل الحياة والمجتمع، والثانية أن «حرباً أهلية»، مدفوعة بالطائفية، يحتدم أوارها، وتأتي على الأخضر واليابس. كل رواية تخدم طرفاً. الأولى بالطبع تعبّر عن أشواق السوريين إلى الحرية، وانفجار غضبهم على آل الأسد الذين استباحوا البلاد والعباد على مدى نصف قرن، والثانية تصب في خدمة دعاية هذه العائلة ومؤسساتها وأشياعها في سوريا ولبنان. روايات الصراع ليست مجرد كلام. عندما تكون ثورة، فإن الشعب يستحق التعاطف معه والانحياز إليه من أجل تلبية أشواقه في التغيير، ما يعني أن «المجتمع الدولي» مطالب بتدخل ما لوقف نزيف الدم، وردع المعتدي (النظام الحاكم) بطريقة أو بأخرى. لكن السيناريو يختلف عندما تكون حرباً أهلية، إذ يستوي عادة الجلاد والضحية، ويُعاملان تقريباً على قدم المساواة. هذا الوصف أطلقه الغرب على عدوان الصرب في البوسنة مطلع التسعينيات ليبرر وقوفه على «الحياد» فيما زعم، وقد عبر عن ذلك بوضوح وزير الخارجية البريطاني آنذاك، دوغلَس هيرد، عندما قال إنه «لا توجد أيدٍ نظيفة في هذه الحرب»، وتكرر الخطاب عينه في دوائر صنع القرار في أميركا وأوروبا، وجرى التشديد مرة إثر مرة على عدم نجاعة أي تدخل في «حرب أهلية لا يُعرف فيها من يقتل من»! المشهد في سوريا لا يختلف كثيراً عن البوسنة، بل إن أوجه الشبه مثيرة بين المأساتين بشكل لافت يذكرنا بمقولة: «التاريخ يعيد نفسه». تسمية هذا المشهد باسمه الحقيقي (الثورة) يعني شرعية مطالب الجماهير ووجوب الوقوف مع هبّتها. تسميته بالحرب الأهلية يعني حالاً «غير ثورية»، تتسيّدها الفوضى والعنف والاحتراب الأهلي بالغ التعقيد. وإذا أضيف إلى ذلك مسمى «الطائفية»، فإن الحرب تكتسب بعداً مجنوناً وعبثياً، يجعل التفكير بالتدخل ضرباً من العدمية لا يفضي إلا إلى مزيد من القتل، فكأن «المتدخل» يعمي العين من حيث أراد تكحيلها. الثورة هي التوصيف الموضوعي لما يجري في سوريا منذ منتصف شهر آذار (مارس) 2011. من درعا انطلقت شرارة الثورة عندما هبّ أطفال كالورود معلنين رفضهم للتغول الأسدي الذي جثم طويلاً على صدور السوريين. وبعد ستة أشهر من التظاهرات السلمية اتجهت الثورة، مرغمة تحت آلة البطش، إلى العسكرة. في حمص، وفي بابا عمرو تحديداً، كانت نقطة التحول. أيقن السوريون حينها، وقد كانوا يعرفون من قبل، أنه لا مفر من اللجوء إلى السلاح للدفاع عن النفس. لا يراودني شك البتة أن معظم السوريين يدركون أن ما تشهده بلادهم ظاهرة ثورية نقية عفوية انفجرت كالبركان بعد عقود من القهر لم يعرف لها التاريخ العربي الحديث مثيلاً. وكانوا يدركون أن الطريق لن تكون سهلة، وأن التضحيات ستكون جمة. خرج بشار الأسد مطلع الثورة ليهمهم: «طائفية». كان يريد ترويج رواية «الحرب الأهلية»، وربطها بتقسيم المجتمع وفق خطوط الطائفة. من وظائف الخطاب السياسي «التفسير والربط». كان بشار «يفسر» الثورة بطريقته، ويربطها بسياقات تخدم أجندته. وكما يحدث عادة في الخطاب السياسي، يخرج مسؤول آخر من نظام المستبد ليقدم «تفسيرات» تؤكد ما قاله الزعيم، وتوحي بأن تصريحه كان ذا مغزى. بثينة شعبان خرجت أمام الكاميرات لتروج لرواية «الطائفية»، رغم أن أحداً من المتظاهرين السلميين وقتها (وحتى بعد العسكرة) لم يظهر ما يوحي بالطائفية. غير أن تشديد آلة الدعاية الأسدية على «طائفية» الصراع لا يجسد سوى القلق الذي يستبد بآل أسد، وشعورهم بأن الأغلبية في سوريا قد ضاقت ذرعاً باستلابها وقهرها بذرائع مصطنعة (الخوف من الطائفية، الحاجة إلى المقاومة والممانعة)، وكأن هذه الأغلبية ترد على عصابة الحكم بالمثل العربي: «رمتني بدائها وانسلت»! تعني رواية «الحرب الأهلية» أن الجماهير الثائرة غير سويّة وغير عقلانية وتصدر عن أجندة معادية للوطن. كان الأسد يسعى من خلال ضخ الرواية إلى التهديد بها، وجر البلاد إليها، فإما هي، وإما هو. مصطلحات مثل «الطائفية» و «الحرب الأهلية» و «الإرهاب» تهدف إلى نزع الشرعية عن الثورة، وتشويهها. حتى عسكرة الثورة لم تحدث إلا بعد ستة أشهر من احتجاجات سلمية كانت تتعرض لإطلاق النار، ويسقط فيها شهداء بالعشرات يومياً. كانت الدعاية الأسدية تردد أن التظاهرات غير سلمية، وأنها تطلق النار، وتستفز الجيش للدفاع. أسطورة صنعها الأسد وحاول ترويجها، ثم تحققت بالفعل. كان الأسد يخافها، ولكنه كان يتوقعها، ويعرف أنه لا مناص منها في النهاية. إنها أسطورة «العصابات المسلحة» التي ستعطيه الذريعة للانقضاض على الشعب وذبحه وتهجيره. نظر الأسد إلى الثورة بوصفها عدواً يجب سحقه بأي ثمن، ومهما طال الوقت، وأصم أذنيه عن أي نداء للسير ولو خطوة نحو منتصف الطريق. ارتبك «المجتمع الدولي» في تعامله مع الثورة. أظهرت واشنطن وحلفاؤها تعاطفاً حذراً معها، لاسيما أنهم نظروا إليها في سياق «الربيع العربي» الذي أصاب دوائر صنع القرار الغربي بالصدمة. لم يصدق الغرب الدعاية الأسدية وسخر منها، ولكنه في الوقت نفسه لم يفعل شيئاً لحماية الشعب من القتل. وعندما شرعت الجامعة العربية والأمم المتحدة في «التوسط» وإرسال المندوب تلو الآخر، اتضح أن «المجتمع الدولي» بدأ يتبنى رواية «الحرب الأهلية» ويتعامل مع «الأزمة» من منظورها، لأنها تريحه وتخفف العبء عن كاهله. مادامت صراعاً على مكاسب ونفوذ، فلا مفر من التفاوض بين «الأطراف المتصارعة»، والوصول إلى «حلول توافقية» مع الحفاظ على بنية المؤسسة الحاكمة وإعادة الأمن والنظام إلى البلاد. تكرر توصيف «الحرب الأهلية» في الصحافة الغربية، وأشار إليه مراراً كوفي عنان ولخضر الإبراهيمي، لأنهما يعرفان أن هذا ما يداعب هوى «المجتمع الدولي» ويريد أن يسمعه. المشكلة أن تأتي الطعنة من قريب، كما في اللقاء الذي أجرته صحافية عاملة في صحيفة الرياض مع الشيخ عبد الله بن منيع، عضو هيئة كبار العلماء في السعودية. ويُظهر تسجيل اللقاء أن طرح الأسئلة على الشيخ كان ساذجاً، ويشي بضحالة السائلة، وافتقارها إلى المهنية، ومحاولتها المكشوفة «تلقين» الشيخ الجواب. سألت الشيخ: «أنت عارف... «الربيع العربي» أو الخريف العربي..فيه الآن بتويتر اللي جالس يطلع فتاوى للجهاد في سوريا..أوكي؟ هل هناك جهاد في الحروب الأهلية؟». رد الشيخ مؤكداً صيغة السؤال قائلاً: «ينبغي للإنسان في مثل هذه الحروب الأهلية...»، ثم ربط في سياق اللقاء هذه الحروب بالفتن مؤكداً أن «الشرع يسعى لإخماد الفتن». صحيفة الرياض قوّلت الشيخ ما لم يقل في جانب، وأثبتت عليه من جانب آخر أقوالاً لا يستطيع نفيها. كان عنوان اللقاء مثلاً مضللاً، فالشيخ لم يقل: «ما يحصل في سوريا وبلاد الثورات حروب أهلية لا جهاد بها». هذا كان فقط «تفكير» الصحيفة، واستنتاجها. الشيخ، وإن وصف عرضاً ما يجري في سوريا بأنه «حرب أهلية»، وهو مؤسف، إلا أنه لم ينص على أنه ليس جهاداً، كما أنه لم ينتقد تحديداً «دول الثورات». نفى الشيخ فيما بعد وصفه الجهاد في سوريا بالحرب الأهلية مؤكداً أن الشعب السوري مظلوم، وأنه في جهاد مشروع، وعلى المسلمين نصرته، بحسب ما نقلت عنه صحيفة سبق. لكن الضرر وقع. وطارت مواقع شبيحه الأسد وماكينة دعايته بالفتوى، واحتفلت بها فضائيات «العالم» و «المنار» و «روسيا اليوم» وغيرها. موقف محزن حقاً، ويؤكد الحاجة إلى نقد الذات وتصحيح المسار، سواء لدى مروجي روايات «الحروب الأهلية» و «الخريف العربي»، أو حتى لدى علماء الدين الذين ينبغي أن يدركوا خطورة تصريحاتهم، وأن يستعينوا بمستشارين متخصصين، ويعيدوا النظر في تعاملهم مع صحافة تتراجع صدقيتها وتبحث فقط عما تشتهي سفنها. اللغة ليست بريئة. إنها انتقائية ومؤدلجة. وقد درجت النخب وقوى النفوذ في الحكومات والميديا على إنتاج سلسلة من المفردات بهدف الاستتباع وصناعة القبول، وقمع أي محاولة لسبر أغوار اللغة. في مستهل ما وُصف بـ «الحرب على الإرهاب»، وتحديداً في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2001 صرح جورج دبليو بوش أن «أفضل السبل للدفاع عن وطننا..؛ أفضل السبل للتأكد أن باستطاعة أطفالنا أن يعيشوا في سلام، هو نقل المعركة إلى العدو وإيقافه». الحرب إذن هي أفضل سبيل للسلام. ويعلق الأكاديمي الأميركي إرين مكارثي ساخراً على ذلك بالقول: «..ها نحن نعرف الآن، الخنازير خيول، البنات بنون، والحرب سلام». رواية «الحرب الأهلية» في سوريا ليست إلا أنموذجاً على توحش اللغة الذي يرسم مشهداً زائفاً، ويقود، في التحليل الأخير، إلى مقاربة خاطئة.

رسالة اعتذار من صهاينة الخليج

نحن الموقّعين أدناه نعتذر إلى الإنسانيّة عن تاريخنا؛ عن ثقافتنا المفخّخة بالعنف؛ عن سيرة أجدادنا الملّطخة بالدماء. نعتذر عن ما كانوا يسمّونه «الفتوح الإسلامية»، وما كانت سوى عمليات غزو واسترقاق، وإجبار للسكان الأصليين على دفع...

السكوت علامة العار

في البدء كانوا مجاهدين، ثم صاروا فدائيين، ثم مقاومين، وتدريجاً أصبحوا مسلّحين، فكان طبيعياً أن يصبحوا في نهاية اليوم، «إرهابيين»، ثم يُسدل الستار على الفاجعة، ولمّا تنته. يصبح الإسرائيلي ضحية، وتصبح أفعاله دفاعاً عن النفس...

اليمن: الانفصال انقلاب آخر

اليمن تاريخياً بلد واحد غير مقسّم، والتقسيم إضعاف لهذا البلد، وتشتيت لشعبه، وفتح أبوابه لتدخّلات عسكرية وقواعد أجنبية واضطرابات وحروب قد تكون أسوأ من وضعه إبّان الانفصال القديم في الستينيات والسبعينيات. وبينما يتّجه العالم إلى...

ابن الغلامي والكرتون!

حدّث سهم بن كنانة، قال: كان في القرن الخامس عشر بجزيرة العرب، رجل يزعم أنّه واحد دهره في الأدب، وأنّه أدرك من أسرار البيان، ما لم يدركه إنسٌ ولا جان، وقد اشتُهر بابن الغلامي، أو...

لن أتوقّف عن الصّمت!

علّمونا ونحن صغار أنّ «الصمت من ذهب»، وكان جدّي لأمّي يكرّر لي البيت: يموت الفتى من عثرةٍ من لسانِهِ/وليس يموت المرءُ من عثرة الرّجْلِ، وقديماً قال جدّنا أكثم بن صيفي: «الصمت حُكمٌ وقليلٌ فاعله». كبرنا،...

إذا كان الاستفتاء انقلاباً فالحياة هي الموت!

قبل الاستفتاء على التعديلات الدستورية في تركيا، وأثناءه وبعده، لم تتوقف جريدة الحياة اللندنية عن الهجوم على الحكومة التركية. كانت هذه الصحيفة معروفة إلى عهد قريب بحرصها على عدم إبراز أيديولوجيتها، وباستقطابها كتّاب رأي ليسوا...

تركيا: الرجل لم يعد مريضاً!

كان يا ما كان، في آخر الزّمان، أنّ رجلاً كان مريضاً فتعافى، فغضبت عجوزٌ كانت ذات يوم سبباً في إمراضه حتى مزّقته إرباً إرباً، وطفقت تولول وتشقّ جيبها، وتدعو بالثبور، وعظائم الأمور، فلم تكن تتوقّع...

كوني حرّة: كم من باطل أزهقته كلمة!

حدّث سهم بن كنانة، قال: في أواخر القرن الرابع عشر، قبل أن تُولد الفضائيات وتنتشر، ظهرت في جريدة اسمها «اليوم»، قصيدة أثارت كثيراً من اللوم، وكانت متحرّرة القوافي، واسم كاتبها حميد غريافي، وقد جاء في...

الأمير تميم: خطاب العقل في مواجهة الذين لا يعقلون

تسعى الخطابة السياسية عادةً إلى توحيد المواقف، وردم الفجوات، والتركيز على القواسم المشتركة. هذا هو لبّ الخطابة وفلسفتها عبر التاريخ: الدعوة إلى «التعاون»، وإحياء الروح الجماعيّة، وتغليب المصلحة العامة على الخلافات البينيّة. لكنّ ذلك لا...

الموصل: الموت على أيدي «المحرِّرين»!

كنّا نعرف أنّ «تحرير» الموصل، ثاني أكبر مدن العراق، من قبضة تنظيم داعش سيكون دامياً، وكنّا نترقّب فقط مشاهد القتل الجماعي لأهل تلك المدينة بحجة تحريرهم من الإرهاب. لكن لم نكن نتوقع أنّ المجازرستثير في...

اليوم العالمي للنّوم!

حدّث سهم بن كنانة، قال: اعتراني ذات يوم السأم، وشعرت بأنواع الألم، وجفا عينيّ الكرى، وعادت صحّتي القهقرى، فراودتني الرغبة في الخروج، والاستئناس بين المروج، ودُللتُ على قرية تُسمّى «سراج»، شعارها «لدينا كلّ ما تحتاج»،...

أقوى من النسيان: التشنّج الأوروبي من الاستفتاء التركي

كان الرئيس التركي، أردوغان، محقّا في اتهامه عدداً من دول الاتحاد الأوروبي بالارتهان للفاشية والنازيّة إثر إلغاء ألمانيا عدداً من التجمّعات الانتخابيّة التي كان من المقرّر أن يحضرها وزراء أتراك في مدن ألمانيّة، ومنع هولندا...