قطر تترك إرثاً

فرضت علي طبيعة عملي الجديدة التفكير جلياً في كيفية الارتقاء بأطفالنا ثقافياً.. الأمر الذي يُلحُّ علي سؤالاً يتكرر دوماً، ويُشكل لي تحدياً مهنياً جديداً: «ما الذي يمكن أن نتركه لهؤلاء الصغار بعد رحيلنا»؟ ومن منطلق هذا السؤال، اطلعت على نتائج إحدى الورش التفاعلية التي بها فريق إعداد الخطة الاستراتيجية للمركز الثقافي للطفولة لنقاش شريحة طلبة المرحلة الإعدادية حول تطلعاتهم وطموحاتهم من المركز، فأدهشتني عبارة ذكرها أحد الطلبة «أن يكون للمركز إرث ثقافي»! وما إن دخلت مكتبي حتى وجدت إهداء جميلاً من الأمانة العامة للتخطيط التنموي بعنوان «قطر تترك إرثاً للأجيال القادمة»! تصفحت الكتاب ووجدته «إرثاً» رائعاً يجب التوقف عنده.. والتأمل في ما ورد فيه من معلومات وبشكل جاد قد يتطلب التدخل الفوري لحماية هذا «الإرث» للأجيال القادمة! سأعرض عليكم بعض ما ورد في الكتاب من معلومات إحصائية وتتعلق برأس المال البشري: - حققت قطر تقدماً ملحوظاً في مجال التنمية البشرية رافق النمو الاقتصادي السريع، حيث تقدمت قطر، وفقاً لهذا المؤشر HDI من المرتبة 51 إلى المرتبة 37 خلال 2001-2010، ومتفوقة بذلك على دول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء مؤشر التعليم! ويقترح التقرير أن تتضمن الاستراتيجية الوطنية للتعليم العديد من المبادرات لتحسين النتائج التعليمية، بما فيها معدلات الانتقال إلى التعليم العالي، من خلال المسارين: الأكاديمي والفني. - ارتفع متوسط أعمار القطريين وشهد تحسناً ملحوظاً، حيث بلغ عند الذكور 75 عاماً ومن النساء 81 عاماً، في الوقت الذي ارتفعت فيه معدلات الوفيات وبنسب استثنائية بين الرجال والنساء القطريين وكبار السن بسب مرض السكري والسرطان وحوادث المرور.. مع ملاحظة انخفاض الإنفاق الكلي على القطاع الصحي من %4.3 عام 2003 إلى 1.8 عام 2010، وبنسبة أقل من متوسط الإنفاق في دول مجلس التعاون، والذي يبلغ %2.5! ويوصي التقرير بأن تتضمن الاستراتيجية الوطنية للصحة إصلاحات بعيدة المدى لتشمل تغيرات جوهرية في نظام الرعاية الصحية بأكمله، من خلال التأمين الصحي الخاص، وتحسين البنية التحتية الصحية، وزيادة الميزانية والإدارة الشفافة للنفقات الرأسمالية. - حقق القطريون تحسناً ملحوظاً في التحصيل العلمي، حيث بلغ القطريون الحاصلون على الشهادة الثانوية %56 والشهادة الجامعية %24 عام 2010، وبنفس التقدم المماثل للإناث. والجدير بالذكر أن %60 من خريجي جامعة قطر حاصلون على تخصصات الاقتصاد المطلوبة والقائمة على المعرفة، مقارنة بـ %100 من خريجي جامعات المدينة التعليمية. وقد صاحب هذا التحسن الملحوظ زيادة في الإنفاق الحكومي على التعليم من %8 إلى %13 خلال 2001-2010. وتظل المواءمة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل هي التحدي المستمر بعد، والممكن التغلب عليه من خلال زيادة فرص التدريب قبل وأثناء التعليم، علاوة على توفير الفرص والمسارات البديلة للطلبة الذين لم يتمكنوا من مواصلة التعليم الجامعي، من خلال التعليم الفني والتدريب المهني. - مع التوسع الاقتصادي السريع في قطر بما في ذلك البنية التحتية، تدفق لسوق العمل أعداد كبيرة من العمالة الوافدة وغير الماهرة (%32) متبوعة بالعمالة شبه الماهرة (%48)، الأمر الذي ترتب عليه تقلص نسبة القطريين في قوة العمل الإجمالية إلى %6 فقط. والجدير بالذكر أنه بين كل 4 قطريين يعمل 3 في القطاع العام. كما ارتفعت نسبة القطريين العاملين في القطاع الخاص من %3.2 إلى %8.4 خلال 2001-2011. - يتقاعد الرجال القطريون في سن مبكرة جداً (40 عاماً) كما هو ملاحظ خلال 2001-2011 مقارنة بنظرائهم في معظم البلدان (69 و76 في الدول المتقدمة والدول الثمان على التوالي). ويقترح التقرير مراجعة تشريعات سوق العمل ونظام الكفالة وسياسات التوظيف وتشجيع القطريين على العمل في القطاع الخاص ومبادرات ريادة الأعمال. أكتفي بهذه المعلومات الإحصائية المتعلقة بإرث رأس المال البشري القطري.. وما لا شك فيه أن هناك بعض الإرث مما سبق ومما سيتراكم عبر السنوات القادمة سيكون فخراً وقوة للأجيال القادمة.. ولكن اسمحوا لي بطرح ثلاثة تساؤلات فقط رغبة في حماية إرث الجيل القادم تعليمياً وصحياً ومهنياً: 1- إلى متى نتحدث ونناقش ونوصي بأهمية التعليم والتدريب الفني المهني كبديل للمسار الأكاديمي لعشرات الشباب الذين لم يتمكنوا من التعليم الجامعي! وما هو وضع المدارس التجارية والصناعية؟ وهل تم تقييم مخرجاتها.. ومساراتها المهنية.. وتوجهاتها المستقبلية لاقتصاد المعرفة؟ 2- من الواضح أن القطاع الصحي الحكومي يتطلب التدخل الفوري «لإنعاشه» بعد النتائج أعلاه! أيُعقل انخفاض الإنفاق الصحي في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة وفيات المواطنين من أمراض قد يُكلف علاجها خارجاً أو ربما الوقاية منها ما يعادل الإنفاق الرأسمالي على «النيو لوك» للقطاع الصحي! فهل سيفديه «الإنعاش» أم قد يحتاج إلى جراحة عاجلة لزراعة أعضاء جديدة؟! 3- نظرياً، يعتبر سن الأربعين سن النضج المهني والخبرة الحكيمة في الإدارة والقيادة والتخصص وعندما يبدأ الرجل القطري في التقاعد في هذه السن المبكرة قد يُشكل ظاهرة تستحق البحث والدراسة والتحليل.. فإن الأمر يتطلب وقفات.. للتأمل في هذا الأمر الغريب.. وبالذات عندما تتم مقارنته بظاهرة «الخبراء من كبار السن فوق الستين»! وأعتقد أنك ربما أدركت الآن عزيزي القارئ.. مقصد ذلك الطالب ذي الرابعة عشر من عمره عندما ذكر «أن يترك المركز إرثاً ثقافياً!» الله المستعان.. كلمة أخيرة كل الشكر والتقدير للجهود الرائعة التي يقوم بها فريق عمل وقيادة الأمانة العامة للتخطيط التنموي وجهاز الإحصاء في عملهم الإحصائي والتوثيقي لتقديم إرث قطر للأجيال القادمة..