


عدد المقالات 1
لطالما كان المكان المفتوح عبر التاريخ مثيرا للاهتمام في علاقته بإنتاج الثقافة والإبداع الفني، لما يتيحه من ممكنات في هندسة الفعل الثقافي والتشكيل الجمالي له ومن هامش للحرية أوسع مقارنةً بالفضاءات النمطية. فمن «لاغورا» الاغريقية تلك الساحة الكبيرة بأثينا التي كانت ملتقى للفلاسفة والشعراء جنبا إلى جنب مع عامة المواطنين إلى سوق عكاظ منبر العرب الأول لإنشاد الشعر وتناقله بين أغوار شبه الجزيرة العربية وأنجادها، إلى مسرح الحديقة في السويد مع مطلع القرن العشرين الذي قام على فكرة تحويل الفضاءات المفتوحة والحدائق إلى أماكن للعرض الثقافي بهدف إتاحة الفنون للجميع. ومن خلال امتدادات الطيف التاريخي لدرب الساعي «الفكرة والمضمون» جاءت هذه النسخة الجديدة لعام 2024 كفضاء تتكثف فيه الأبعاد الرمزية لقيم الهوية الوطنية من خلال هندسة المشروع ثقافيا، إذ حولته وزارة الثقافة (تصميماً وتنفيذاً) إلى دروب مفعمةٍ بالإبداع والابتكار في غمرة احتفالات اليوم الوطني. فمثلما كان مناديب مؤسس قطر الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني طيب الله ثراه الذين ائتمنهم على رسائله وتوجيهاته الداخلية والخارجية يؤدون مهمتهم على ظهور الهجن القطرية، فأهل الثقافة والفنون مؤتمنون في رسالتهم العظيمة مؤدون لمهامهم كلٌ بوسيلته الإبداعية. ولما كان درب الساعي هو الطريق حينها فإن أثر هذا الدرب باقٍ وممتد رمزاً وإلهاماً كإرث ثقافي وفكري في كل دروب الثقافة والفنون حاضراً ومستقبلاً. وفي استعادة لملامح المدينة القطرية القديمة، يمتدّ هذا الفضاء الثقافي بمكوناته ومرافقه المتعددة مُشرِعا أبوابه لاستقبال جموع الوافدين عليه، كواحدٍ من أكبر التجمعات الثقافية والتراثية في دولة قطر. وبحبكةٍ سينوغرافية متقنةٍ منحها الكساء الصوتي والديكورات والأضواء توهّجا أكبر يكتب الدرب حكايته الجديدة مع زواره، تجسيداً مبهراً لفكرة الهندسة الثقافية بما هي تدبير للمشروع الثقافي الشامل. فقد أسهمت العناصر الثقافية مجتمعةً في تشكيل ملامح درب الساعي وبناء معالمه وفق هندسةٍ مُلهمةٍ، وجهدٍ مخططٍ يقوم على التصميم الابتكاري للفضاء وإدماج عموم الجمهور في عملية الإنتاج واعتماد أنماط جديدة لعرض وتسويق المنتجات الثقافية والابداعية. ومع الإقرار بأن للفضاء الثقافي المفتوح نكهته الخاصة به، وقدرته الفائقة على تشكيل المنتوج الثقافي الأكثر تنوعا وثراء والأشد التصاقا بجمهور المتلقين، كانت مهارات الهندسة الثقافية أيضا وأدواتها وسيلة مثلى وناجعة استفاد منها القائمون على الفعالية لخلق نوع جديد من الفكر الثقافي يرتكز على إدماج المكونات الثقافية المتنوعة في صعيد واحد وصناعة مشهد ثقافي كبير له أثر بالغ في عملية التلقي. وهكذا تحول الفضاء إلى حكايةٍ تروي فصولها حياة القطريين على مر تاريخهم وتحاكي أطوارها تراثهم الممتد المتصل فتنهل من الماضي بعوائده وارثه الخصيب لترسم صوراً حيةً هي أقرب الى لوحة الفسيفساء، مسهماً في بناء جسورٍ مجتمعيةٍ تتنقل عبرها المعاني الثقافية من جيل إلى جيل فترسخ في الأذهان وتحيي في النفوس مشاعر الوحدة والفخر والحنين وتقوي قيم الوطنية وتعزز معاني الولاء والانتماء. واضطلع درب الساعي بتعزيز السياحة الثقافية كأحد ثمرات هذه الهندسة الإبداعية، إذ لا عجب أن تحوّل مثل هذه الفعاليات المنتج الثقافي والإبداعي لعوامل جذب تعزز من انتشار ومكانة الثقافة الوطنية من خلال الموسيقى والمسرح والفنون البصرية والحرف وفن الطهو والضيافة والصناعات الإبداعية ذات الصلة. إنه مشروع ثقافي متكامل وشامل قوامه تعزيز المناعة الثقافية للمجتمع القطري والقيم الأصيلة والهوية الوطنية. في مواجهة التحديات كما نحصن من خلاله النشء عبر غرس القيم الوطنية والمرتكزات الثقافية.