


عدد المقالات 101
منذ أكثر من عشر سنوات، كان الأستاذ غسان بن جدو لا يزال مراسلاً جديداً لقناة الجزيرة في طهران. يومها، نشرتُ في الزميلة النهار اللبنانية تحليلاً مطولاً عن القناة كان مما قلتهُ فيها، ضمن أشياء أخرى عديدة، أنها تحتاج لإعطاء فرصةٍ أكبر للرجل، لأن من الواضح أن ثقافته الواسعة وشخصيته المُحببة تؤهله لموقعٍ أكبر. لم تمض سنواتٌ قلائل إلا وأصبح الرجل أحد أكبر ماركات (الجزيرة). وبغضّ النظر عن تأثير رأيي في قرار صعوده السريع، وهو ما لا أظنه، إلا أن ذلك الرأي كان يُعبّر عن قراءةٍ متقدمةٍ للقيمة الثقافية للإعلامي الزميل. للمفارقة، لم ألتق بغسان ولم أتواصل معه شخصياً على الإطلاق، وإن كنا لفترةٍ من الزمن متجاورين ككُتّاب رأي في الزميلة (الوطن). ولا أعلم إن كان يرضى بأن أصفه بالزمالة بحكم ذلك الجوار، خاصةً مع موقفه المُعلن من الثورة السورية تحديداً، ومع كوني من أشدّ مؤيديها، وأحد من يعمل لخدمتها. لكنني أعلمُ يقيناً أنني شعرتُ ولا أزال بغصّةٍ مؤلمةٍ من موقفه لم أكن أتوقعها على الإطلاق، ليس من منطلقات عاطفية، وإنما من منطلقات ثقافية ومعرفية على وجه التحديد. نُسبَ إلى الرجل مقالٌ طويل ينعى فيه الثورات العربية والثورة السورية تحديداً، وأعتقد أن النّسبة كانت صحيحةً لأن المقال مكتوبٌ بطريقة لا يقدرُ عليها سواه. كان صُلب المقال النقد القاسي والحادّ جداً الوارد في المقال التأكيدُ على افتقار الثورات العربية وتلك السورية تحديداً لحضور (الفيلسوف) الحقيقي فيها، الأمر الذي حوّلها، في رأيه، إلى شكلٍ من أشكال (الفوضى) لا يمتُّ بصلةٍ إلى الثورات من قريبٍ أو بعيد. ومنذ أيام، نشر المثقف السوري (المعارض) ميشيل كيلو مقالاً ينعى فيه هو الآخر الثورة السورية، ليؤكد فيه أنها ماضيةٌ إلى إحدى نهايتين لا ثالث لهما: انتصار الأسد أو الحرب الأهلية! كنتُ أرى في ميشيل قامةً ثقافية من الطراز الرفيع. واستشهدتُ في أحد مقالاتي هنا منذ شهور بفقراتٍ مطوّلة من رسالةٍ أرسلها على شكل مقال إلى الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب مع بداية الحرب على أفغانستان. كانت الفقرات المذكورة تنضح بعزّة انتمائه لشعبٍ أسهب في وصف العناصر الثقافية له مع التركيز على اثنين منها: الدرجة العالية التي يملكها هذا الشعب من الإصرار والصبر، وقدرته التاريخية على ممارسة وترسيخ قيم التعايش بين شرائحه على اختلافها، رغم كل الأحداث والوقائع التي كان يمكن أن تقسمهُ وتقتل فيه نظرياً وعملياً روح التعايش المذكورة. لا أدري كيف يفسّر كيلو اليوم رأيه الأخير حين يضعه في مقام المقارنة مع مقاله السابق. ولا أعرف درجة الجرأة التي يملكها ليقول إنه كان مُخطئاً كمثقف ومفكر حين قدم قراءتين تُناقض إحداهما الأخرى في المجال الذي نتحدث عنه على الأقل. لكنني أعرف أن مثقفينا اليوم يعيشون حالةً من الارتباك الثقافي ينتج عن مزيجٍ معقّد من معرفة بعض الحقائق والجهل ببعضها الآخر، ومن هواجس أيديولوجية لا يستطيعون الانفكاك عنها من جانبٍ آخر. عودةً للحديث عن الزميل بن جدو. لا أنكر أن في مقاله لفتةً معرفيةً تحتاج إلى تفكير من حيث المبدأ. فالثورات العربية، بما فيها السورية، تفتقر فعلاً إلى الفلاسفة إذا كان الحديث بالمعنى الحرفي للكلمة. وما من شكٍ أن وجود هؤلاء وقدرتهم على تأدية دورهم المطلوب يمكن أن يكون رافعةً كبرى للمجتمعات. لكن مكمن المفاجأة، الكبير والمؤلم، يكمن في افتقاد الرجل للقدرة على رؤية العبقرية الجمعية الكامنة في الثورة السورية على وجه التحديد، سيّما وأنه خصّها بالجزء الأكبر من النقد الجارح بأقسى الألفاظ والعبارات. ثمة مفارقةٌ لم يستطع بن جدو أن يلحظها. إذ لا أعلم كيف خفي عليه أن أحد أسباب الثورات العربية يكمن تحديداً في موت (الفيلسوف والفلسفة) خلال العقود الماضية في بلاد العرب. فإذا كنا نتحدث عن التأثير الحقيقي للفلسفة في المجتمعات، يمكن القول دون تردد إنه لم يكن ثمة فلاسفة في الواقع العربي خلال تلك العقود. وماذا تكون الفلسفة إن لم تعنِ رفض الواقع ومحاربة الاستنقاع ونقض السائد والشك في المسلّمات؟ ماذا تكون إذا لم تدفع إلى إثارة الأسئلة الوجودية حول الإنسان وقيمته على هذه الأرض وحول طبيعة علاقته بالإنسان والكون والإله؟ أي معنىً يكمن في الفلسفة إن لم يكمن في دفع الإنسان بحيث يعيش انقلاباً في طريقة تفكيره بكل القيم والمبادئ والمقاييس التي كرّستها الثقافة السائدة؟ بل أي داعٍ للفلسفة أصلاً إذا لم تُفجّر في الإنسان طاقات لم يكن يدرك وجودها، ولم تفتح أمامه آفاقاً لم يبصرها، وتُعيد له ثقته بأنه يستطيع أن يفعل ويملك ويؤثر ويغير؟ انتظر الشعب السوري لمدة عقود (فلاسفةً) ينيرون له الطريق. انتظر حتى ملّ الانتظار. فإذا به يقرر أن يلعب هو، بعقله الجمعي، ذلك الدور. وعلى مدى عامٍ أو يزيد، ها هو الشعب السوري يؤكد كيف أنه يرفض الواقع وينقض السائد ويحارب الاستنقاع ويشكك في المسلمات. هل يوجد شكٌ في أنه يقتلع من الجذور كل ما حاول النظام أن يرسّخه على أنه الحقيقة الوحيدة في كل مجال؟ ها هو الشعب السوري يثير بفعله قبل قوله أسئلةً وجودية تتعلق بقيمته وبطبيعة علاقته بالآخر والكون والإله. هل يشكّ عاقلٌ أنه بات يعرف قيمته الحقيقية، وأنه يعيد بشكلٍ جذري رسم شبكة علاقاته مع الآخر والكون والإله؟ ها هو الشعب السوري يُظهر للعالم بأسره درجة الانقلاب التي يعيشها في كل ما يتعلق بعالم القيم والمبادئ والمقاييس التي اعتقد النظام أنه فعل المستحيل لتكريسها على مدى عقود. ها هو الشعب السوري يبهر العالم كله بحجم الطاقة الكامنة فيه على الصبر والإبداع والعزيمة والإصرار. ها هو يرينا جميعاً بوضوحٍ كوضوح الشمس بأنه أبصر أفقاً جديداً، وأنه يسير في اتجاهه قدماً بثقةٍ لا تعرف الحدود، وقناعةٍ راسخةٍ بأنه يستطيع أن يفعل ويؤثر ويغير. ها هو الشعب السوري يخرج كالعنقاء من تحت ركام عقود المعاناة والصبر والتهميش والاحتقار. باختصار، ها هو الشعب السوري يَظهرُ للعالم فيلسوفاً ستُحرِّك فلسفته الشعوب وتُلهمها كما لم يحدث قط في تاريخنا المعاصر، تماماً كما حرّك الفلاسفةُ الشعوب في الثورات التي استعلى بن جدّو بها في مقارنتها بثوراتنا. نسي بن جدّو أن انفجار تلك الثورات كان ثمرة انفجار العقل الفلسفي ابتداءً. وحين يريد من ثوراتنا أن توجد هي الفلاسفة فإنه يُغفل درجة وقوعه في تناقضٍ منهجي عميقٍ وشامل.. بل ومؤسف.. من إنسانٍ كنا نأمل أن يتقن قراءة المشهد بتركيبته الصحيحة.. لا ننكر وجود الظواهر الشاذة في هذه الصورة. لا نَغفل عن رؤية سلبيات فيها نعتبرها تحديات طبيعية راكم النظام أسباب وجودها سابقاً، ويفعل المستحيل لتوسيع دوائرها. نظر بن جدّو إلى الفلسفة والفلاسفة بعينٍ مقلوبةٍ فأخطأ التحليل، وأغمض عينه الأخرى عن كل فعلٍ يقوم به النظام، وعن صبرٍ أسطوري عاشه الشعب على مدى عشرة شهور على الأقل قبل أن نرى تلك الشواذ والسلبيات.. فتعامل مع الثورة السورية كالأعمى. لا نقول هذا شتيمةً، حاشا لله، وإنما تفسيراً عملياً لتحليلنا السابق. لا تبحثوا عن (الفيلسوف) في ثوراتنا يا سادة بحَرفيةٍ تجاوزها التاريخ. تواضعوا قليلاً وانزلوا من أبراجكم العاجية، واصبروا على قراءة الصورة بكل عناصرها. خذوا وقتكم وعيشوا بعض المعاني الإنسانية الهائلة الكامنة في ممارسات الثورة والثوار. امتلكوا القوة النفسية للابتعاد قليلاً عن مشكلات المعارضة ومستواها (المتقزّم) الذي لا يليق حتى الآن بالثورة السورية (العملاقة). افعلوا ذلك كله.. وأملنا كبير مع تاريخكم وقدراتكم، بل وإرادتكم التي أزعم أنها مخلصة، بأن تروا صورةً مغايرة كثيراً لتلك الصورة السوداوية التي سيطرت على تفكيركم وتقويمكم وحضوركم الثقافي والإعلامي في المرحلة الأخيرة. وأن تقبلوا برؤيةٍ جديدةٍ للفيلسوف والفلسفة. ودمتم بكل محبة.
بعد بضعة أيام من نشر هـذا المقال، يعقد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية اجتماعاً سيكون من أكثر الاجتماعات حساسية في تاريخه وتاريخ الثورة السورية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق. وتنبع خطورة الاجتماع بالدرجة...
{وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدماء ونحنُ نُسبّحُ بحمدك ونُقدّس لك قال إني أعلمُ ما لا تعلمون}. بغضّ النظر عن الحشو الذي يملأ بتفاصيله...
لم يعد ثمة مجالٌ على الإطلاق، وبأي حسبةٍ من الحسابات، أن يسمح عربُ المشرق، ومعهم تركيا، لهذا الطوفان الإيراني أن يجتاح المنطقة بهذا الشكل الصارخ، ليس فقط في قباحته وابتذاله، بل وفي دلالات الموقف الدولي...
منذ بضعة أيام، صدرت عن الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، مواقفُ نعتقد أنها غير مسبوقة، وأن دلالاتها السياسية والدينية والثقافية تحتاج إلى كثيرٍ من التأمل. خاصةً عندما نفكر بأسبابها من جهة، ومآلاتها...
قلائلُ هم الرؤساء الأميركان الذين يعرفون لماذا وصلوا فعلاً إلى البيت الأبيض, وماذا سيفعلون فيه على وجه التحديد. هذه حقيقةٌ معروفةٌ في أميركا، رغم أن عدد ساسة هذا البلد الذين يحلمون بالوصول إلى أهم موقعٍ...
ما من شكٍ أن ثوار سوريا على الأرض كانوا ولا يزالون وسيبقون أصحاب القرار الحقيقي، لا نقول فيما يتعلق بمصير الثورة السورية، وإنما في تحقيق نصرها المؤزر في نهاية المطاف. لكن هذا لا يتناقض مع...
من الممكن جداً أن يكون تشكيل الحكومة السورية المؤقتة نقلةً هامة على طريق تحقيق أهداف الثورة السورية. ثمة مؤشرات عديدة على أن هذا الأمر في وارد الحصول، رغم الشكوك التي يطرحها البعض هنا وهناك. يبدأ...
منذ أكثر من خمسة شهور، وفي لحظة تأسيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، كان أعضاؤه يعرفون، ومعهم العالم أجمع، أن الائتلاف هو المؤسسة الأم التي ستتولد عنها ثلاث مؤسسات أخرى أحدُها الحكومة المؤقتة. لم...
كثيرةٌ هي التحديات التي تواجه الثورة السورية، لكن تحدي الحفاظ على (الاستقلالية) بحساباتها وموازناتها الشاملة قد يكون أكثرهاً خطورةً وأهمية. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الموقع الاستراتيجي لسوريا فإن التعامل مع هذا التحدي كان وسيبقى مهمةً...
كلما قلتُ متى موعدُنا ضحكت هندٌ وقالت بعد غد. قد يعبّر هذا البيت من الشعر العربي عن حال الثورة السورية مع معارضتها السياسية. فرغم المحاولات المختلفة للقيام بالدور المطلوب من قِبلها، لا تبدو هذه المعارضة...
يمكن وصف الثورة السورية بألف طريقة وطريقة، فهي تحمل في طياتها بحراً من المعاني سيأتي قريباً اليومُ الذي تظهر دلالاتهُ الحقيقية للناس. لكن وصف (الهجرة) قد يبدو في هذه المرحلة مُعبّراً عن واقع السوريين أكثر...
في عددها مطلع الأسبوع الماضي، نشرت مجلة الإيكونوميست البريطانية مقالاً بعنوان «سوريا، موت وطن». وعلى غلاف العدد، وضعت المجلة رسماً من ثلاثة أسطر يُعبّر عن دمار سوريا بشكلٍ تدريجي وصولاً نحو الخراب الكامل. بعدها بأيام،...