الموت.. قاعداً!

ارتبطت صورة المتقاعد في أذهاننا منذ أن كنا صغاراً من خلال الإعلام، وبالذات المسلسلات والكارتون، بصورة ذلك المُسن الذي يعشق الهدوء، ويناقش زوجته في صغائر الأمور، ويلاعب الأحفاد، ويلاحق المزعجين منهم، ويحاسبهم على الإضاءة والصوت المبالغ فيه، أو زوجته وبناته على ارتفاع نسبة السكر أو الهيل أو الزعفران في كوب الشاي أو فنجان القهوة.. أما في الغرب، فقد اعتدنا رؤية المتقاعد في شخص ذلك المسن الذي يستمتع بري حديقته الجميلة، أو حرث مزرعته الكبيرة وحيواناته الأليفة، ويتنقل بمنتجات حصاده بشاحنته الصغيرة، ثم يستمتع بالقليل من اللهو مع صحبة القهوة. أما متقاعد اليوم.. فقد تغيرت صورته كثيراً عما ألفناها في صغرنا! فلم يعد المتقاعد ذلك المُسن.. بل رجل في قمة عطائه الجسدي والفكري.. والمهني! فالمتقاعد المواطن هو اليوم شخص قد بلغ للتو سن النضج والعطاء.. رُكن لسبب ما، فإن كان باختياره فذلك قراره، وإن كان قهراً فلذلك حكايات ليس مجالها هذا المقال.. فأصبحنا نراه يطرق الأبواب بحثاً عن أي عمل.. وأي عمل لا يسد به باب رزقه.. بل ليواصل عطاءه.. في حين احتفظ المتقاعد الأجنبي «بوقاره وشيبته»، ولكن عوضاً عن إشغال ما بقي له من أيام في ري حديقته أو حرث مزرعته، أصبح خبيراً أو مستشاراً يتنقل بين دول النفط العربي، ليحصد ما يمكن توفيره لما بقي له من عمر! بالأمس القريب أصدرت الهيئة العامة للتقاعد تقريراً عن أدائها خلال عام 2011، وسأستعرض لكم النقاط التالية: - انخفاض عدد المشتركين من 48.074 إلى 46.818 بفارق قدره 1.256 مشتركاً (2.6 %) وذلك لارتفاع عدد المحالين للتقاعد من القطاع المدني، والذين تمثل نسبتهم %110، كزيادة عن المعدل التراكمي للمتقاعدين للسنوات السابقة، مع ملاحظة عدم تناسب نسبتهم مع نسبة زيادة عدد المشتركين خلال العام والمقدرة بـ %44.6! علاوة على تركز غالبية حالات المتقاعدين في القطاع الحكومي (%94.7)، معظمهم من الذكور (%60.5). الأمر الذي يعتبر نتيجة متوافقة جداً مع تقرير قطر تترك إرثاً الذي أصدرته مشكورة الأمانة العامة للتخطيط التنموي، والذي أشار إلى صغر سن تقاعد الرجل القطري (40 عاماً)، وهو السن الذي يعتبر مبكرة جداً مقارنة بالدول المتقدمة (69 و76 في الدول المتقدمة والدول الثماني على التوالي)! يتقاعد الرجل القطري في سن الأربعين.. فينخفض عدد مشتركي صندوق التقاعد! - ورغم انخفاض عدد المشتركين، حافظ صندوق التقاعد على استقراره النسبي نتيجة للقرار الأميري المتعلق بزيادة الراتب الأساسي والعلاوة الاجتماعية لموظفي الحكومة، والذي أثر بشكل إيجابي على ارتفاع متوسط الراتب الشهري. - قيمة استثمارات صناديق المعاشات بلغت 20.755 مليون ريال، وحققت عوائد 719 مليون ريال، رغم أن الصندوق يقوم على النظام التكافلي الذي يركز على السياسة التمويلية من الاشتراكات الشهرية أكثر من التركيز على السياسة الاستثمارية التي تهدف إلى تنمية أصول الصندوق، مع ملاحظة أن المادة رقم (31) من اختصاصات مجلس إدارة الهيئة من قانون تأسيس الهيئة (24/2002) تشير صراحة إلى وضع نظام لاستثمار أموال الصندوق! عشر سنوات منذ إصدار قانون التقاعد في 2002، ولولا القرار الأميري رقم (50) لسنة 2011 بزيادة الراتب الأساسي والعلاوة الاجتماعية.. لمات هؤلاء وهم قاعدون.. على حالهم سنوات عجاف! وأن كان الصندوق وهو ينتهج سياسة النظام التكافلي لا الاستثماري، فإنه ما شاء الله بألف خير وقد حقق عوائد مربحة جداً من استثمارات محلية، فأين مردود هذه العوائد في شكل خدمات ومزايا للمتقاعدين؟ ولماذا لا يتم استثمارها في مشاريع استثمارية مستقلة خاصة بالصندوق كمول تجاري، مشروع سياحي، ناد صحي، مستشفى، وغيره أسوة ببعض الصناديق المماثلة في الدول الشقيقة! ونحن إذ نستبشر خيراً من القانون الجديد، فإننا ننقل اقتراحات المتقاعدين لصُناع القرار لتوفير حياة أكثر كرامة وأماناً لهم. - الدراسة السنوية للرواتب التقاعدية في ظل التضخم وارتفاع الأسعار مع فرض زيادة سنوية بحد أدنى ك %3-7 مثلاً أسوة بالمُطبق حالياً في بعض الدول الشقيقة لمواجهة تقلبات ومتطلبات الحياة الكريمة في المجتمع. - إنشاء صندوق تكميلي لزيادة معاش المتقاعدين لمن يرغب لمواجهة أعباء المعيشة (مُطبق حالياً في صندوق التقاعد الكويتي). - إنشاء صندوق خاص للقروض (بدون فوائد) لمواجهة أعباء المعيشة (كقروض لتعليم وزواج الأبناء وللعلاج وغيره). - توفير التأمين الصحي الشامل للمتقاعدين (وليس من الضرورة ربطهم بإصدار التأمين الصحي لموظفي الدولة، فمن الظلم أن ينتظر ما يقارب الـ 10000 متقاعد وهم الأقلية المتضررة مادياً) أسوة ببعض أنظمة التقاعد في الدول الشقيقة التي تقدم هذه الخدمة. - مراعاة الظروف الاجتماعية الخاصة بالمرأة العاملة كالسماح للموظفة بالتقاعد المُبكر في حال توفر زوج أو أحد الوالدين، أو ابن من ذوي الاحتياجات الخاصة، أو في حالة مرضية حرجة تتطلب العناية الخاصة (مُطبق حالياً في صندوق التقاعد الإماراتي). - تقديم بعض الخدمات المتميزة والخاصة بشريحة المتقاعدين مثل إنشاء ناد ترفيهي لهم، خصومات خاصة في المحلات التجارية، كوبونات شراء مجانية من «الميرة ومواشي» وبالذات في المناسبات الدينية والاجتماعية كرمضان والأعياد، أولوية في سكن ومحلات «بروة العقارية والتجارية»، أولوية في محلات سوق واقف للقيام ببعض المشاريع الصغيرة، وغيره. الاقتراحات كثيرة، وقد تطول القائمة.. ويبقى السؤال الأكثر أهمية متى سيُنظر للمتقاعد على أنه قد بدأ للتو حياة طيبة كريمة بعد سنوات من العطاء للوطن.. ومتى ستتغير النظرة إليه من شفقة.. إلى فخر واحترام.. ومتى سيتغير الحكم عليكم بالموت.. وهم قاعدون؟ اليوم نكتب لنطالب بحقوقهم.. والله وحده أعلم أن كُنّا سنجد من يطالب بحقوقنا غداً؟ كلمة أخيرة: شكراً لمغردي «تويتر» الذين اقتبست منهم الكثير من الأفكار والاقتراحات في كتابة هذا المقال..