الثقافة كناظم لإدارة التنوع في قطر

حين تتجول في أي من المدن القطرية يلفتك مشهد الأمان الاجتماعي الذي ينعكس في الاحترام المتبادل بين المواطنين والمقيمين. وفي ذات المشهد تبرز فسيفساء العلاقات بين المقيمين فيما بينهم على اختلاف ألوانهم وخلفياتهم الدينية والفكرية والثقافية والاجتماعية، في صورة تنطق بالتعايش والتفاهم. هذه اللوحة المتناغمة، إذا ما تأملت تفاصيلها، تجد أن هناك خيطًا ناظمًا يجمع عناصرها، ألا وهو الثقافة، بمعناها العام والخاص. ففي معناها العام، بوصفها نمطًا للحياة، تتجلى الثقافة في احترام القانون والعادات والتقاليد من قبل الجميع داخل الدولة، وايضاً عبر سلوكيات يومية تعكس تقدير الآخر، وعدم التعدي على ثقافته أو الانتقاص منها. ويظهر ذلك جليًا في لغة التواصل غير المكتوبة التي تسود الأماكن العامة والمجمعات التجارية والطبية والخدمية وصولاً الى مضامير الرياضة والملاعب المختلفة، حيث الابتسامة والترحاب هما العنوان الأبرز. وكأن هناك خارطة جينية ثقافية قد وضعت شفراتها على هذه الأرض الطيبة فأنبتت هذا النبات الحسن وما تنظيم كأس العالم 2022م ببعيد وما حواه من رسائل قيمية و ثقافية والتفرد الذي ما زال حديث العالم الى اليوم. أما على مستوى الفعل الثقافي المنظم، فإن المؤسسات المعنية بالشأن الثقافي في قطر قد أدركت منذ وقت مبكر أن الثقافة ليست ترفًا، بل ركيزة أساسية في تعزيز الأمن المجتمعي، وأداة فعالة في تحويل التنوع إلى مصدر قوة. فسعت وفق رؤية موفقة لنسج خيوط مختلفة الألوان عبر الفعاليات من فن ومسرح ومعارض وندوات ومسابقات وغيرها، لتصب في محصلتها النهائية في ثوب التعايش الاجتماعي. فلا يخلو برنامج ثقافي الا وتجد حضورًا متنوعًا من مختلف الجنسيات، سواء كزوار أو مشاركين، في مشهد يعكس مفهوم الاستدامة الثقافية من بعض اوجهها ويعزز من قيم التعايش. وحريٌ بنا أن نشير الى ان هذا التوجه قد أسهم في ترسيخ صورة قطر كواحدة من أكثر مدن العالم أمانًا، حيث جاءت الدوحة في المركز الثالث عالميًا ضمن تقرير موقع «نومبيو» لعام 2024 حول مؤشرات أمن المدن، من بين 329 مدينة حول العالم، والذي نُشر في أغسطس من العام الماضي 2024م. والذي لا يختلف علية اثنان ان المؤسسات الثقافية في قطر تلعب دورًا محوريًا في هذا السياق، من خلال تنظيم فعاليات واحتفاليات تمثل مختلف الجاليات، لا يقتصر حضورها على أبناء الجالية نفسها، بل يشارك فيها الجميع، في مشهد يعكس أواصر الصداقة والتآلف. ويظهر ذلك أيضًا في المعارض الفنية والأمسيات الإبداعية التي تزخر بها رزنامة الثقافية القطرية، والتي تُبرز تنوع الإبداع وتعدد روافده. وكما قلت أعلاه فإن الثقافة تظل هي الخيط الناظم لهذا التنوع، ومن المهم تعزيز هذا الدور من خلال مزيد من الجهود، لا سيما عبر إنتاج أفلام وثائقية تُجسد هذه القيم ليشاهدها العالم أجمع، وتشجيع الكتابة حول هذه التجربة الحضارية الفريدة التي تفتقدها كثير من العواصم. وفي الختام، فإن ما يجمع بين المعنى العام والخاص للثقافة هو تلك القاعدة المعرفية التي تقوم على الاعتراف بالتنوع، والسعي لتحويله إلى قوة مجتمعية، وبهذا المعنى، تُعد قطر نموذجًا حيًا لدراسة هذا المفهوم القيمي والاجتماعي. E mail : arakidoha@yahoo.com