


عدد المقالات 101
منذ بضع سنوات، سألت المذيعة بولا يعقوبيان الفنان دريد لحام عن سبب توقفه عن أداء المسرحيات الكوميدية ذات الطابع السياسي، وهي مسرحياتٌ اشتُهر بتقديمها في الماضي، وذاع صيتها إلى درجةٍ كبيرة. ابتسم الرجل وهو يفكر بُرهةً في الجواب ثم قال ما معناه: «أصارحكِ أن السبب قد يكون هو الشعور بالإحباط. لقد كنت أظن في مرحلةٍ من المراحل، ومعي العديد من الفنانين والمثقفين أن من الممكن لنا أن نغير الدنيا من خلال الفن والكلمة، ولكن الواقع العربي فيما يبدو أثبت لنا عكس ذلك». دار الزمن دورة كاملة، وجاء يومٌ أثبتَ فيه الجيل العربي الجديد أن التغيير ممكن. لكن التساؤل الذي ظل باقياً صار يتعلق بقدرة الفنانين والمثقفين على أن يؤدوا دورهم المطلوب في عملية التغيير المذكورة. والواضح أن مواقف شريحة من الفنانين والمثقفين السوريين أسهمت وتسهم في إلقاء ظلال كثيفة من الشكّ والريبة على قيمة الكلمة وقيمة الإبداع الأصيل، وعلى دورهما في واقعنا المعاصر. وهذه ظلال لا يقتصر تأثيرها فقط على الجماهير، وإنما يبدو ممتداً إلى تلك الشريحة نفسها من المبدعين في كل مجال وعلى كل صعيد. نفهم وضعَ تلك الشريحة قبل ربيع الثورات العربية، نفهم في سوريا مثلاً كيف أصابهم اليأس والإحباط من قدرة كلمتهم وفنهم وإبداعهم على تغيير أي شيء في ذلك الواقع الذي كان يبدو بنظرة معينة راكداً ورتيباً ومملاً وغائباً عن الحيوية الثقافية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تجتاح العالم من أقصاه إلى أقصاه. وقتها، اختار البعض من أفراد هذه الشريحة الانطواء، وربما الصمت الكامل، لكن بعضهم الآخر قرر الاندماج في عوالم التزييف والنفاق والغش والكذب والسطحية، بدعوى أن هذا هو السائد، وأن «العين لا تُقاوم المِخرز» كما تقول الأمثال. وبما أنه لا أمل في التغيير حسب رؤيتهم، فلا أقل من أن يعيش الإنسان مع السائد ويعتاش منه، عملاً بالحكمة التي تقول «إذا لم يكن ما تريد، فأرِد ما يكون». كان هذا الأسلوب الأخير في التعبير عن اليأس هو أكثر الأساليب مأساوية، لأنه لا يعبر فقط عن إحباط يدفع المبدع للصمت، وإنما يدفعه للتماهي مع أسباب المأساة من جذورها، ولقبولها والإقرار بها، إلى درجة تجعلهُ سريعاً جزءاً من المشكلة، بعد أن كان الأمل فيه أن يكون جزءاً من الحل. بينما يمكن للصمت في حد ذاته أن يكون تعبيراً قوياً عن الرفض، أو أن يكون مرحلة للمراجعات، بل ربما يصبح في بعض الأحوال الهدوءَ الذي يسبق العواصف والأعاصير. إن مشاعر الإحباط تتشكل ثم تتراكم عند المبدع، فناناً كان أو مفكراً أو أديباً أو غير ذلك، لأنه ينسى أحياناً جملة مقدمات أساسية يجب أن تُشكّل بمجموعها ذلك الوقود النفسي والفكري والعملي الذي يدفعه على الدوام للحركة والإبداع. فهو يمكن أن ينسى في غمرة انغماسه في اللحظة الراهنة والحدث الآني أن التغيير البشري بطبيعته صيرورةٌ طويلةُ الأمد، ولكنها تتأثر يقيناً بكل جهد وبكل عطاء، لأن التغيير مهما كان كبيراً في النهاية فإنه حصيلة تلك الأفعال الصغيرة التي تتجمع من هنا وهناك، لتدفع نهر الحياة الدافق شيئاً فشيئاً في اتجاه آخر. لكن المشكلة تتمثل في افتقاد الكثيرين القدرة على إبصار مرحليّة التغيير، والقدرة على رؤية دور كثير من النشاطات والأعمال، التي تُعتبر صغيرة في زرع بذور التغيير. وما ذلك إلا لأن الثقافة السائدة تنبهر بالحوادث والوقائع الضخمة ذات الضجيج، وتعتبرها وحدها مصدر كل تغيير في حياة المجتمعات. وعلى سبيل المثال، فإن عمر ثورة الإعلام والمعلومات العالمية، وهي ثورةٌ نعلم جميعاً أنها تتمحور حول الكلمة والفكرة والمعلومة لا يتجاوز عدة سنوات. ورغم ذلك فإن نظرةً متأنّية يمكن أن تُظهر لنا حجم التغيير البنيوي الثقافي والاجتماعي الذي أحدثته وتُحدثه تلك الثورة في العالم العربي، وهو تغييرٌ له دلالاته الكبيرة وسيؤدي بالتدريج إلى تغيير سياسي واقتصادي هيكلي، ربما لم يتمكّن سوى المتخصصين من إبصار ملامحه وقتها، لكن الأيام أظهرتهُ الآن واقعاً مُشاهداً من قبل الجميع. إن للقصيدة التي تعرّي واقع الزيف والفساد، على سبيل المثال، دوراً حساساً في عملية التغيير، وكذلك الأمر بالنسبة للقصة والرواية والمسرحية والمسلسل، بل الأمر كذلك بالنسبة للرسم الكاريكاتيري (هل ما زلنا نذكر ناجي العلي وعلي فرزات؟). فتعرية الزيف، وتسليط الأضواء على الفساد، والإشارة إلى مفاصل الاهتراء، وفضح التخاذل والسلبية والجهل، وعرض النماذج البديلة الممكنة للحياة الاجتماعية والسياسية، هي جميعا من الأدوار الحساسة التي يقوم بها الإبداع الفكري والفني والأدبي في كل الحضارات، وعلى مر التاريخ. وهي بذاتها أدوارٌ تؤثر أيّما تأثير، في حدّها الأدنى في الحفاظ على خميرة رفض الواقع السلبي بكل مساوئه ومخازيه، ولكن من الممكن لها أن تصبح أيضاً عبر مزيدٍ من الإبداع والابتكار والأصالة والارتباط الصادق بهموم الناس محركاتٍ للفعل البشري الإرادي الذي يؤمن بالكمون الهائل الموجود عند الإنسان، وبالطاقة الكبيرة الموجودة لديه، فلا يكون منه إلا أن يتجاوز سريعاً مرحلة الرفض، وينطلق لفرض واقع تسوده القيم الإنسانية الأصيلة، مثل الحق والعدل والخير والحرية والجمال. من هنا، لا يفهم شعبنا الثائر في سوريا موقف شريحة من الفنانين والمثقفين كان ينظر إليها بعين المحبّة والتقدير، لأنها كانت في السنوات السابقة تقوم تحديداً بذلك الدور الخطير والحسّاس. وبالتالي، فإن مواقفها السلبية الراهنة من الثورة تتناقض مع كلّ الأهداف التي كانت واضحة في أعمالها, حيث كان ظاهراً للجميع أن جوهر تلك الأعمال كان يتمثل في المناداة بواقع توجد فيه دولة الحرية والكرامة والقانون والمحاسبة والمساواة بين سائر المواطنين. هذا هو الواقع الذي تعمل الثورة السورية على إيجاده عملياً اليوم، فأين مَن كانوا طليعة من نادوا بذلك بشكلٍ مباشر أو غير مباشر؟ سؤالٌ قد يبدو غريباً، أو حتى عبثياً. وقد لا نستطيع فعل شيء بهذا الخصوص سوى تذكير هؤلاء بالدور الذي قاموا به، وبأهمية استمرار هذا الدور، بعيداً عن اليأس والإحباط من جهة، وبعيداً عن الصمت والاعتزال من جهة ثانية. وتذكيرهم فوق هذا بحجم المسؤولية الملقاة اليوم على عاتق المبدعين، خصوصا في حقول الفن والأدب والفكر، ليستعيدوا أولاً إيمانهم بـ (اقرأ) وما تعنيه، وإيمانهم بأنه (في البدء كانت الكلمة)، وإيمانهم بأن التغيير قَدَرٌ ومصير، عسى أن يعودوا إلينا فيصبحوا تلك المشاعل التي تنشر نور ذلك الإيمان بين الناس، وتحافظ على حرارة جمرته المشتعلة حيةً في القلوب والعقول.
بعد بضعة أيام من نشر هـذا المقال، يعقد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية اجتماعاً سيكون من أكثر الاجتماعات حساسية في تاريخه وتاريخ الثورة السورية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق. وتنبع خطورة الاجتماع بالدرجة...
{وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدماء ونحنُ نُسبّحُ بحمدك ونُقدّس لك قال إني أعلمُ ما لا تعلمون}. بغضّ النظر عن الحشو الذي يملأ بتفاصيله...
لم يعد ثمة مجالٌ على الإطلاق، وبأي حسبةٍ من الحسابات، أن يسمح عربُ المشرق، ومعهم تركيا، لهذا الطوفان الإيراني أن يجتاح المنطقة بهذا الشكل الصارخ، ليس فقط في قباحته وابتذاله، بل وفي دلالات الموقف الدولي...
منذ بضعة أيام، صدرت عن الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، مواقفُ نعتقد أنها غير مسبوقة، وأن دلالاتها السياسية والدينية والثقافية تحتاج إلى كثيرٍ من التأمل. خاصةً عندما نفكر بأسبابها من جهة، ومآلاتها...
قلائلُ هم الرؤساء الأميركان الذين يعرفون لماذا وصلوا فعلاً إلى البيت الأبيض, وماذا سيفعلون فيه على وجه التحديد. هذه حقيقةٌ معروفةٌ في أميركا، رغم أن عدد ساسة هذا البلد الذين يحلمون بالوصول إلى أهم موقعٍ...
ما من شكٍ أن ثوار سوريا على الأرض كانوا ولا يزالون وسيبقون أصحاب القرار الحقيقي، لا نقول فيما يتعلق بمصير الثورة السورية، وإنما في تحقيق نصرها المؤزر في نهاية المطاف. لكن هذا لا يتناقض مع...
من الممكن جداً أن يكون تشكيل الحكومة السورية المؤقتة نقلةً هامة على طريق تحقيق أهداف الثورة السورية. ثمة مؤشرات عديدة على أن هذا الأمر في وارد الحصول، رغم الشكوك التي يطرحها البعض هنا وهناك. يبدأ...
منذ أكثر من خمسة شهور، وفي لحظة تأسيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، كان أعضاؤه يعرفون، ومعهم العالم أجمع، أن الائتلاف هو المؤسسة الأم التي ستتولد عنها ثلاث مؤسسات أخرى أحدُها الحكومة المؤقتة. لم...
كثيرةٌ هي التحديات التي تواجه الثورة السورية، لكن تحدي الحفاظ على (الاستقلالية) بحساباتها وموازناتها الشاملة قد يكون أكثرهاً خطورةً وأهمية. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الموقع الاستراتيجي لسوريا فإن التعامل مع هذا التحدي كان وسيبقى مهمةً...
كلما قلتُ متى موعدُنا ضحكت هندٌ وقالت بعد غد. قد يعبّر هذا البيت من الشعر العربي عن حال الثورة السورية مع معارضتها السياسية. فرغم المحاولات المختلفة للقيام بالدور المطلوب من قِبلها، لا تبدو هذه المعارضة...
يمكن وصف الثورة السورية بألف طريقة وطريقة، فهي تحمل في طياتها بحراً من المعاني سيأتي قريباً اليومُ الذي تظهر دلالاتهُ الحقيقية للناس. لكن وصف (الهجرة) قد يبدو في هذه المرحلة مُعبّراً عن واقع السوريين أكثر...
في عددها مطلع الأسبوع الماضي، نشرت مجلة الإيكونوميست البريطانية مقالاً بعنوان «سوريا، موت وطن». وعلى غلاف العدد، وضعت المجلة رسماً من ثلاثة أسطر يُعبّر عن دمار سوريا بشكلٍ تدريجي وصولاً نحو الخراب الكامل. بعدها بأيام،...