الأخضر واليابس

منذ نهاية العام 2007 ونار الأزمة العقارية ثم المالية ثم الاقتصادية تستعر وتأكل كل شيء في طريقها. والعرب تصف النار إذا كبر حجمها بأنها ستأتي على الأخضر واليابس، كناية عن قوة استعارها، فهي لا تكتفي باليابس من الأشجار كحطب لها ولكنها تأخذ في طريقها الأخضر الحي الذي لم ييبس ولا يعد حطباً، وهذا نراه واضحاً جلياً في حرائق الغابات وكيف أن النيران تحرق الغابة الحية وتحولها إلى رماد. وعندما انتشرت نار الأزمة العالمية فإنها أكلت في طريقها كل عود يابس، التهمته بسهولة تامة، مهما كان حجمه عوداً صغيراً أو عكرة كبيرة، وحولت ضحاياها إلى رماد تذروه الرياح، فلم تفرق بين كون هذا اليابس دولة أو دولاً مجتمعة أو شركات، أو أفراد ومستثمرين، قد اتخذوا قرارات وتبنوا استراتيجيات تجعل منهم وقودا لنار الأزمة. فلم تسلم أميركا -وهي منبع الشرارة الأولى لهذه النار- ولم تسلم دول الاتحاد الأوروبي المتخذة لليورو عملة رسمية لها ومنها اليونان وإيطاليا، وحتى فرنسا الآن في وضع لا تحسد عليه، وحتى الشركات، فلا يمكن عد هذه الشركات التي تعلن إفلاسها بشكل يومي، بدءا من بنك ليمان براذر إلى جنرال موتورز التي تم إطفاء نارها بصعوبة بالغة، وحتى أكبر البنوك والمؤسسات المالية ما زالت في وضع تخوف من الحريق العاصف. فالأزمة كانت عاصفة والنار محرقة ولكنها ليست كحرائق الغابات تأتي على الأخضر واليابس، حيث لم تنل سوى من اليابس، أما الأخضر فإن نار الأزمة لم تستطع أن تنال منه ليبقى شامخا باخضراره، وينمو عوده الأخضر ويزهر ويثمر، وكأن النار في كوكب آخر، والأمثلة كثيرة للمتابع. فالسويد مثلاً دولة حافظت على النمو الإيجابي في ظل هذه الأزمة المستعرة، ليصل نموها السنوي إلى أكثر من %6 سنويا، واستمرت شركاتها الوطنية بتحقيق ربحية سنوية مثل إيكيا، وسبب عدم مساس نار الأزمة الاقتصاد السويدي هو تخليها السويد عن اليورو والمحافظة على الكرونا عملتها الخاصة بها. لقد اختارت السويد ألا تفي عمدا بمتطلبات الانضمام لليورو، وبذلك اتخذت سياسة اقتصادية ونقدية أثبتت الآن نجاحها. والأمثلة الجيدة كثيرة، فأستراليا كانت وما زالت بعيدة عن الأزمة، لأن ديونها السيادية لا تتعدى %7 فقط من ناتجها الإجمالي، وقطر كدولة عربية خليجية نجحت في تفادي نار الأزمة لتحافظ على أعلى معدل نمو في ناتجها الإجمالي، وهي تتجه إلى تنويع استثماراتها الخارجية لتكون بعيدة عن التقلبات الحادة، وتعمل بسياسة تحوط للمحافظة على هذه الاستثمارات، وهذه الحيلة قديمة ولكنها ناجحة «لا تضع كل البيض في سلة واحدة»، فالفكرة بسيطة والتنفيذ العملي هو الإبداع، فالكل يعرف هذه السياسة والكل يرددها ولكن لا يعمل بها أحد إلا من كان عنده بعد نظر. وحتى في وسط نار جحيم الاقتصاد الأميركي، هنالك أمثلة جيدة لشركات استطاعت أن تتبنى سياسات تجعل منها في منأى عن هذه النار، ولن نجد مثالا أفضل من شركة غوغل التي حافظت على نموها وتوسعها وما زالت تتبنى سياسة الاستحواذ لتتوسع وتجذب عملاء أكثر لها، وبشرائها لشركة موتورولا للهواتف فإنها قد دخلت سوقا جديدة عليها، فيها منافسة شرسة بين عمالقة مثل مايكروسوفت وبلاك بيري ونوكيا وسامسونغ وأبل، وهذه الأخيرة تملك حاليا نقدا في حساباتها أكثر من النقد الذي في الخزانة الأميركية الفيدرالية، في إشارة إلى قوة وضعها المالي، وأما وضعها التجاري، فإن انتشار الآي فون والآي باد خير دليل على ذلك. والمتابع لنتائج بعض الشركات المدرجة في بورصة قطر ستتضح له معالم لنماذج خضراء، لم ولن تمسها نار الأزمة التي لا تبقي على عود يابس حتى تحرقه. فعندما تتابع عزيزي القارئ وسائل الإعلام الاقتصادية ومهما كانت النظرة تشاؤمية وسلبية، فتأكد أن هذه النظرة تخص من اتخذ سياسات واستراتيجيات جعلت منه وليمة سهلة للأزمة الاقتصادية، ولكن تأكد أيضا أن هنالك نماذج عودها أخضر وحتى مع هذه الأزمة فإن عودها ما زال ينمو ويزهر ويثمر، فاعرف عودك أو ابحث عنه.