الوطنية والربيع العربي

دخلت الحركات الشبابية العربية التي عرفت بـ «الربيع العربي» مرحلة جديدة حين أصابت أشد المتفائلين بالإحباط من مآلاتها إلى الآن، ولكن هذه الحركات لم تكن حدثاً عادياً حين أطاحت بعدد من حكام العالم العربي عن السلطة، بل تحولا سياسياً له تأثيراته الإقليمية والدولية على مستوى العلاقة بين السلطات والشعوب، والعلاقات بين الدول أيضاً. وقد كشف هذا التحول عن مؤشرات لتحولات قادمة، ملاحظات أولية تدور حول مفهوم الوطنية. لعب الربيع العربي دوراً أساسياً في تعميق مفهوم «الوطنية» في القاموس السياسي العربي. والمقصود هنا ليس «الوطنية» بمفهومها الشعائري الذي تطرحه الأنظمة العربية، بل كمفهوم ينظر فيه المواطن لمصالح دولته كأولوية بعيداً عن الرؤى الأيديولوجية، بشكل يعمق مما يسمى بـ «الدولة القطرية»، ورغم اعتبار أصحاب الأيديولوجيات القومية هذا «تجزيئاً» إلا أن الفشل في بناء «الدولة القُطرية» يعني فشلاً في بناء الدول «التوحيدية». وقد لوحظ أن الإسلاميين أيضاً، حيثما حكموا، بعد الربيع العربي، كمصر –قبل الثلاثين من يونيو- والمغرب، وتونس، قدموا أنفسهم كحركات محلية لا حركات ممتدة جامعة. ولكن الأهم، أن تعميق هذا المفهوم، هو جزء أساسي من ترسيخ مفهوم «المواطنة»، والذي يعد صلب «الدولة المدنية»، والتي لا تكون كذلك دون ديمقراطية تكون آلية لإدارة الحكم في المجتمع، كما أن تعميق هذا المفهوم يقي من التوظيف السياسي الجائر والمستمر لعقود لقضايا كبرى أهمها قضية فلسطين. ولكن بالمقابل من هذا يلاحظ أن وسائل التواصل الاجتماعي كـ «تويتر» و «فيس بوك»، باتت توفر وسيلة تواصل للعديد من مؤيدي الجهاديين وأيديولوجيتهم، باتوا أكثر صراحة في التعبير عن هذا التأييد، خاصة فيما يتعلق بأممية الأيديولوجية ورفضها للوطنيات والقوميات. وهي علنية لأول مرة منذ سنوات، أو منذ الحادي عشر من سبتمبر تحديداً. هذه العلنية، إن بقيت في إطار الصراع السياسي، وفق القنوات الشرعية التي كان يفترض أن يؤسس لها «الربيع العربي» فهو أمر مفهوم، ولكن هناك عامل آخر، يغيب كثيراً عن المراقبين للمنطقة، وهو أن الأيديولوجية السلفية-الجهادية ما زالت تقدم بديلاً لفشل الربيع العربي أو إفشاله. ففي هذه الحالة، إذا شعر الشبان العرب بأن حتى النضال السياسي نحو دول مدنية ديمقراطية، باء بالفشل، ستجد الأيديولوجية السلفية-الجهادية أكثر قبولاً بينهم. ولذا يلاحظ أن القمع الشديد الذي مورس ضد المتظاهرين السلميين في سوريا، وعائلاتهم، أسهم في طرح الجهاديين كلاعب أساسي في الصراع الدائر الآن هناك بشكل تدريجي. وهذا قد ينعكس على مناطق أخرى كمصر وليبيا، وحتى تونس. إن تطوير خطاب وطني، ودمج الأفراد في الدولة باعتبارهم مواطنين، وليس فقط كسكان، يعد أمراً أساسياً لتطوير دولة حديثة، وهو يقدم حلاً لما يعرف بـ «الاغتراب» بين أوساط الشبان والتي تتمثل بحالات الهجرة غير الشرعية في دول الشمال الإفريقي، أو حالات التمرد في مناطق أخرى، وتبني أيديولوجيات راديكالية. مفهوم المواطنة يتعدى شكله الشعائري، بل هو إطار قانوني يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الدولة ورعاياها، وقد كان الربيع العربي، قد وفر فرصة ذهبية لذلك أخشى أن نكون في الدول العربية قد فقدانها لصالح النزعات الأولية الأكثر تطرفاً.