رفع الحصار أولاً

عندما غادرت سفينة مرمرة الزرقاء ميناء سراي بورنو باسطنبول متوجهة إلى ميناء غزة، كان على متنها عدد كبير من أصدقائي وزملائي، وكان لهم هدفان رئيسيان هما: كسر الحصار المفروض على القطاع، ولفت انتباه العالم إلى جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. وقد تحقق هذا الهدف الثاني ورأى العالم مرة أخرى الوجه الدموي القبيح للاحتلال بكل بشاعته، حين هاجمت القوات الإسرائيلية أسطول الحرية وقتلت تسعة أتراك في المياه الدولية. وأما الهدف الأول فلم يتحقق حتى الآن، بل اشتد الحصار على سكان القطاع بشكل غير مسبوق بعد الانقلاب العسكري في مصر وهدم الأنفاق وإغلاق معبر رفح. الحكومة التركية اشترطت على إسرائيل ثلاثة شروط لعودة العلاقات بين أنقرة وتل أبيب إلى ما كانت عليه قبل الاعتداء على أسطول الحرية، وهي: الاعتذار الرسمي، ودفع التعويضات لأسر ضحايا سفينة مرمرة الزرقاء، ورفع الحصار عن قطاع غزة. قدَّمت الحكومة الإسرائيلية اعتذارا رسميا إلى تركيا عن الهجوم الذي شنته قواتها على سفينة مرمرة الزرقاء، ويدور الحديث بين الفينة والأخرى حول المفاوضات بشأن التعويضات التي ستدفعها إسرائيل إلى أسر الضحايا، إلا أن الشرط الأهم من بين هذه الشروط هو الشرط الثاني، أي رفع الحصار عن القطاع، لأن قبول هذا الشرط هو الذي سيحقق الهدف الأول الذي من أجله انطلقت سفينة مرمرة الزرقاء وسقط الشهداء والجرحى. وفي الأيام الأخيرة كثرت الأنباء عن اتفاق وشيك بين تركيا وإسرائيل فيما يخص التعويضات، إلا أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان شدَّد في مؤتمر صحافي عقده الأربعاء الماضي في أنقرة مع نظيره الإسباني ماريانو راخوي، على أنه لا عودة للعلاقات مع إسرائيل ولا يمكن التوصل إلى أي اتفاق بشأن التعويضات لأسر الشهداء والجرحى قبل رفع الحصار عن غزة. "دماء أبنائنا ليست للبيع".. هكذا تقول أسر شهداء أسطول الحرية للحكومة الإسرائيلية، وتؤكد أن أبناءها الذين خرجوا من أجل كسر الحصار الغاشم لم يكن هدفهم الحصول على المال، وأن الاعتذار والتعويض لا يعنيان شيئا ولا قيمة لهما ما لم تقبل إسرائيل الشرط الثالث بشكل رسمي وتلتزم به. يعيش سكان القطاع هذه الأيام أشد مراحل الحصار بسبب هدم الأنفاق التي كانت بمثابة رئة غزة، وكذلك إغلاق معبر رفح وفتحه في حالات استثنائية فقط بحجة الأوضاع المضطربة في شبه جزيرة سيناء. وتضاف إلى ذلك حملات التحريض التي تقودها وسائل إعلام مصرية ضد المقاومة الفلسطينية، والمؤامرات التي تحاك لإسقاط حكومة هنية، وتصعيد الجيش الإسرائيلي هجماته في ظل تهديدات القادة الإسرائيليين بشن حرب جديدة على القطاع ما لم تتوقف الفصائل الفلسطينية عن إطلاق الصواريخ. كل ذلك يجعل اشتراط رفع الحصار أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى. أسر ضحايا سفينة مرمرة الزرقاء ليست بحاجة إلى ما ستدفعه الحكومة الإسرائيلية في حال التوصل إلى اتفاق بشأن التعويضات، ولكن الأسر المحاصرة في القطاع في حاجة ماسة لرفع الحصار ووصول قوافل المساعدات الإنسانية لتخفيف معاناة ما يقارب مليوني فلسطيني. وبكل تأكيد، فإن أسر الضحايا الأتراك لن تسرهم أموال إسرائيل بقدر ما سيسرهم خبر رفع الحصار عن إخوانهم الفلسطينيين. تركيا ليست مضطرة حاليا لعودة العلاقات مع إسرائيل، وعلى الحكومة التركية التمسك باشتراط رفع الحصار وعدم التراجع عنه، وهذا بعينه مطلب أسر الضحايا ومعظم الشعب التركي. وفي الوقت نفسه لا يعني ذلك التخلي عن التعويضات، بل على إسرائيل أن تدفع تلك التعويضات إلى أسر الضحايا عاجلا أو آجلا كاعتراف بالجريمة التي ارتكبتها واعتذار عنها، ولكن ذلك لا بد من أن يتم بعد تحقق الشرط الثالث وإنهاء معاناة سكان القطاع. الرأي العام العربي والإسلامي يتابع مع الفلسطينيين جميع التطورات في هذا الموضوع، وأي تراجع عن اشتراط رفع الحصار لن يعني فقط التخلي عن دعم غزة المحاصرة، بل سيلحق أيضا بسمعة أردوغان وحكومته عارا لا يمكن أن يمحوه أي مبرر.