أميركا تتنفس الصعداء والعالم من ورائها

بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من إعلان إفلاسها وتخلفها عن سداد مستحقاتها، تم الاتفاق التاريخي بين الديمقراطيين والرئيس أوباما والجمهوريين وعلى رأسهم حركة الشاي، في اتفاق يبدو أن المنتصر فيه هم الجمهوريون لأنه تم الاتفاق على خفض الإنفاق بقيمة 2.5 ترليون دولار للسنوات العشر القادمة مقابل رفع سقف الائتمان بمقدار 2.1 ترليون، ولم يأت أي ذكر لرفع الضرائب الذي كان ينادي به الرئيس أوباما. فيما كان المكسب الوحيد للرئيس أوباما والديمقراطيين هو تمديد رفع سقف الائتمان إلى نهاية 2012 أي حتى ما بعد الانتخابات الرئاسية القادمة، مما يتبادر إلى الذهن أن الخلاف سياسي أكثر منه اقتصادي. ونتيجة لهذا الاتفاق التاريخي فقد تحركت الأسواق بتفاؤل متحفظ، ولكن الغريب أن كل المؤشرات استفاقت فجأة، فارتفع الدولار والأسهم الأميركية والعالمية، كما ارتفعت أسعار النفط وفي خطوة غريبة واصل الذهب ارتفاعه، ونحن هنا أمام حالة غير متوازنة، فارتفاع الدولار يستوجب انخفاض السلع والأسهم والمعادن، ولكن هذه الحالة لم تدم طويلا، حيث ما لبث الدولار حتى تنازل عن كل مكاسبه ليعود إلى مساره الصحيح المغاير لباقي المؤشرات هبوطا، فميزان الأسعار يقضي بأن يكون الدولار في كفة وباقي المؤشرات والأسعار في الكفة الأخرى. الأمر المحير حقيقة هو مواصلة الذهب ارتفاعه وتحقيقه أرقاما قياسية جديدة في إشارة إلى أن الأسواق والمستثمرين أصبحوا لا يثقون كثيرا في العملة الخضراء، متخوفين من مفاجآت جديدة في الاقتصاد الأميركي، خاصة أن اللعبة السياسية الآن في الولايات المتحدة اتخذت من الاقتصاد الساحة الوحيدة للصراع الدائر بينهم، كما أن مؤسسات التصنيف العالمي ما زالت في مرحلة إعادة تقييم جودة الديون الأميركية, خاصة السندات الممتازة, وإذا ما اتخذت هذه المؤسسات خطوة جرئية بتخفيض تصنيف هذه السندات من (AAA) فلن يبقى غير الذهب ملاذ آمن للاستثمارات. ورغم أن الاتفاق كان إيجابيا للسوق فإن حقيقة الأمر أن ديون أميركا غدت أكبر من ذي قبل في ظل نمو ضعيف للاقتصاد الأميركي، وخفض الإنفاق مع زيادة الديون سيكون سلبيا على الاقتصاد الأميركي على المدى المتوسط. فلأي مدى سيكون بمقدور أميركا الاستمرار بتسديد ديونها؟ لا يوجد أي مسؤول سياسي أميركي يستطيع أن يؤكد هذا الشيء وهذا ما يجعل الأسواق في حالة خوف من المستقبل، ويبقى حاملو السندات الأميركية المتضرر الأكبر من رفع الدين. وللعودة إلى قضية الذهب فإن كثيرا من البنوك المركزية في الصين واليابان وروسيا تتجه إلى تعزيز احتياطاتها من الذهب على حساب السندات الأميركية، مما حدا ببعض المحللين إلى التنبؤ بأن يصل الذهب إلى مستوى فوق الألفي دولار للأونصة، ولا أستبعد ذلك حقيقة. إن الخلافات السياسية الداخلية بين البيت الأبيض والكونغرس قد تؤدي بالعالم إلى مشاكل حقيقية، فرغم الاتفاق فإن تيار الشاي في الحزب الجمهوري ما زال يرى أن خفض الإنفاق غير كاف، فيما يذهب الليبراليون من الحزب الديمقراطي إلى أن خفض النفقات سيضر الشرائح الفقيرة في المجتمع الأميركي، مما يمهد لخلافات قادمة بين الحزبين في هذه القضية الجوهرية. إن خروج دافعي الضرائب من حسابات الحل أعطى إشارة قوية إلى أن الساسة الأميركيين لم يتوصلوا بعد لحل جذري وهيكلي لمشاكلهم الاقتصادية، والتي ستظل تؤرق العالم لسنوات قادمة، فمن دون إيرادات ضريبية قوية فإن العجز في الموازنة الأميركية سيظل ملازما لها لوقت طويل, وهذا يعني أن الاتفاق لم يعالج المشاكل البنيوية للاقتصاد الأميركي, وإنما مجرد كسب جولة في السباق السياسي بين الحزبين. وبعد هذا الجدال السياسي السؤال الذي يطرح نفسه هو هل المشرعون الأميركيون على قدر كاف من الحكمة لقيادة العالم اقتصاديا؟