لماذا تحتاج الدول العربية لـ «المجتمع المدني»؟

لعل المجتمع المدني في العالم العربي ليس غائباً أو مغيباً فحسب, بل هو يعبر عن حاجة أساسية لإدارة الدولة المعاصرة فيها. يقوم المجتمع المدني على فكرة «العضوية الطوعية»، وليست التطوعية ولا القسرية، بمعنى أن الفرد في المجتمع يختار بحرية الانضمام لمجموعة من مكونات المجتمع المدني كالأحزاب، والمنظمات غير الحكومية، والنقابات... إلخ، وليست الوحدات التي يولد معها الفرد كالدين، والطائفة، والقبيلة... إلخ، ولا يعني هذا بأية حال من الأحول أن هذه الانتماءات الأولية للفرد تتعارض مع الانتماء الطوعي، ولكن الطوعية شرط أساسي في تشكل المجتمع المدني. دوران أساسيان قد تقوم بها مكونات المجمع المدني، الأول هو ممارسة دور رقابي/تنافسي مع السلطة في الدولة، وهو ما تضطلع به عادة الأحزاب، والنقابات، ومنظمات حقوق الإنسان... إلخ. وأما الدور الثاني فهو مكمل للسلطة السياسية، كما يمكن أن يلاحظ ذلك في النشاطات التوعوية، والمنظمات الخيرية... إلخ. ويقوم المجتمع المدني بالتالي بتشكيل فضاء مستقل عن السلطة السياسية، وليمارس المجتمع المدني دوره بحرية في ذلك الفضاء يتوجب له حماية قانونية، وضمان حرية التحرك. وفي الخبرة الإسلامية تشكلت مكونات عدة تعبر عن فضاء ما يشبه المجتمع المدني، كمؤسسة العلماء والمراكز العلمية، والأوقاف، والمساجد، حتى تم تطويعها من قبل السلطة السياسية في معظم الحالات، لتتحول المؤسسة الدينية إلى مؤسسة من مؤسسات السلطة السياسية، وتمارس دوراً أساسياً في تبرير سلوك السلطة وتعسفها. يقتضي المجتمع المدني وجود طبقة وسطى عريضة كي تمثل مصالحها، إضافة إلى دورها في المحافظة على التوازن بين المجتمع. ويبدو عربياً أن تآكل الطبقة الوسطى، واستبداد الأنظمة السياسية لعبا دوراً أساسياً في بقاء المجتمع المدني مجرد فكرة لا وجوداً فاعلاً وحقيقياً على الأرض في معظم الدول العربية. ويمكن للمجتمع المدني في العالم العربي تحقيق أهداف عدة، تسهم في النهاية في إعادة توزيع العلاقات بين السلطة والمجتمع وفق عقد اجتماعي جديد يقوم على صيانة الحقوق ويضمن ممارسة السياسة لكل الأطراف، ومن هذه الأهداف: تفادي تفرد جهة ما بالسلطة في الدولة، والحد من تغول السلطة سواء عبر الأجهزة الأمنية، أو من خلال عقد تحالفات «زبائنية» مع جهات مختلفة في المجتمع تقوم على الانتفاع وليس على العلاقة القانونية الندية، وهذه الجهات عادة ما تكون تعبيراً عن انتماءات أولية، وإن باتت تأخذ مؤخراً طابع المؤسسات الحداثية والمدينية. كما يمكن لمجتمع مدني حقيقي في العالم العربي، المساهمة في التخفيف من حدة التفاوتات الطبقية، والصراعات الاجتماعية، بحصر الصراع السياسي في قنواته القانونية, سواء أكانت في الانتخابات العامة، أو المحلية، أو في وجود الصحافة الحرة، والتمثيل النقابي... إلخ. حركات الربيع العربي، أتاحت الفرصة أمام الدول العربية لتهيئة الظروف لتأسيس مجتمع مدني حقيقي، سواء أكان في جانبه التشريعي المتمثل في قوانين تضمن عمل مؤسسات هذا المجتمع بحرية، أم في جانبه الإجرائي المتمثل في انتخابات وأحزاب وغيرها. عدم استغلال هذه الفرصة سيعقد من أزمات المجتمعات العربية، وقد لا تتاح مثل هذه الفرصة مرة أخرى، لأن غياب مكونات المجتمع المدني عن ساحة إدارة الصراع السياسي اليومي، يتركه إما بيد الاستبداد، وإما بيد جهات منتفعة، لا تبالي إلا بمصالحها الشخصية، أو بجهات لا تؤمن بالعمل السياسي الشرعي, بل بالعنف كسبيل وحيد لتحقيق الأهداف السياسية.