


عدد المقالات 2
في زمنٍ تتداخل فيه القيم وتتشابك فيه المعايير، يُطرح سؤالٌ يضرب في عمق الضمير الإنساني: هل أصبح الحق ثقيلاً لأن الباطل يبدو مريحاً؟ إنّ هذا التساؤل لا ينبع من فراغ، بل من واقعٍ باتت فيه الفضيلة عبئاً، والاستقامة تحدّياً، والصدق مغامرةً محفوفة بالخسائر. لقد تغيّرت ملامح المجتمعات، وتبدّلت فيها الموازين، حتى غدا الباطل يُقدَّم في ثوبٍ أنيق، ويُروَّج له بمنطقٍ يُغري ويُطمئن، بينما يُصوَّر الحق على أنّه طريقٌ شاقٌّ، مليءٌ بالتضحيات، لا يسلكه إلا من تجرّد من مصالحه، وتسلّح بالصبر، وارتضى أن يكون غريباً في عالمٍ يُكافئ المساومة ويُهمّش الثبات. إنّ الباطل، في صورته المعاصرة، لم يعد ذلك القبح الصارخ الذي يُستنكر، بل أصبح يُزيَّن بمصطلحات براقة كـ»المرونة» و»الواقعية» و»الذكاء الاجتماعي»، حتى بات كثيرون يرون في الانحراف عن الحق نوعاً من التكيّف مع الحياة، لا خيانةً للمبدأ. وفي المقابل، يُنظر إلى التمسّك بالحق على أنّه تصلّبٌ، أو مثاليةٌ زائدة، أو حتى سذاجةٌ لا تليق بعصرٍ يُدار بمنطق المصالح. وهنا تكمن المأساة حين يُصبح الباطل مريحاً، لا لأنّه يحمل الراحة الحقيقية، بل لأنّه يُجنّب الإنسان المواجهة، ويُعفيه من الصراع الداخلي، ويُقدّم له مكافآت سريعة على حساب ضميره. إنّ الحق، بطبيعته، يتطلّب جهداً، ويستدعي شجاعة، ويُحمّل صاحبه مسؤوليةً أخلاقيةً لا تُحتمل في بعض الأحيان، خاصة حين يكون محاطاً بأصواتٍ تُشكّك فيه، أو تُسخر منه، أو تُغريه بالتنازل. فهل ثقل الحق نابعٌ من جوهره، أم من البيئة التي تُحاصره؟ إنّ الحق ليس ثقيلاً في ذاته، بل في ما يُواجهه من مقاومة، وفي ما يُفرض عليه من عزلة، وفي ما يُكلّف صاحبه من صبرٍ على الأذى، وثباتٍ أمام الإغراء، ورفضٍ للانصهار في تيارٍ يُهلّل للباطل ويُصفّق له. إنّ الراحة التي يُوهم بها الباطل ليست راحةً حقيقية، بل هي تخديرٌ مؤقّتٌ للضمير، وهدنةٌ زائفةٌ مع الذات، وسلامٌ هشٌّ مع واقعٍ ملوّثٍ بالزيف. أما الحق، فهو وإن بدا شاقّاً، إلا أنّه يُمنح صاحبه طمأنينةً لا تُشترى، وكرامةً لا تُقاس، ونقاءً لا يُدركه إلا من ذاق مرارة الصدق في زمنٍ يُكافئ الكذب. إنّ السؤال الحقيقي ليس: لماذا يبدو الحق ثقيلاً؟ بل: لماذا لم نعد نحتمل ثقله؟ لماذا أصبحنا نبحث عن الطرق الأسهل، ونُبرّر الانحرافات، ونُزيّن التنازلات، ونُقنع أنفسنا بأنّ الباطل ضرورةٌ لا مفرّ منها؟ إنّ الإجابة تكمن في ضعف التربية على القيم، وفي هيمنة الثقافة الاستهلاكية، وفي تراجع دور القدوة، وفي طغيان الصورة على الجوهر، حتى بات الإنسان يُقاس بما يملك لا بما يعتقد، وبما يُظهر لا بما يُضمر، وبما يُرضي الآخرين لا بما يُرضي ضميره. وإذا استمرّ هذا الانحدار، فإنّ الحق سيزداد ثقلاً، لا لأنّه تغيّر، بل لأنّنا تغيّرنا، ولأنّنا لم نعد نُهيّئ أنفسنا لتحمّل تبعاته، ولأنّنا استبدلنا راحة الضمير براحة الجسد، ورضا النفس برضا المجتمع، وصدق المبدأ بذكاء التبرير. إنّ استعادة خفّة الحق لا تكون بتغيير جوهره، بل بإعادة بناء الإنسان الذي يُقدّره، ويُدافع عنه، ويُؤمن بأنّ الراحة الحقيقية لا تُنال إلا حين يتطابق القول مع الفعل، والظاهر مع الباطن، والنية مع السلوك. فهل نحن مستعدّون لتحمّل ثقل الحق، أم سنظلّ نُفضّل راحة الباطل، حتى يُصبح الحق غريباً فينا، ونحن غرباء عن أنفسنا؟ أما أنا، فكلما تأملت هذا المنظور، شعرت بامتنانٍ عميقٍ لوالدي رحمه الله، الذي غرس في داخلي بذور القيم، وسقى جذورها بالحبّ والمثال الحيّ. لقد علّمني أن الحقّ لا يُقاس بسهولته، بل بثباتنا عليه، وأنّ الراحة الحقيقية لا تُولد من المساومة، بل من الوفاء للمبدأ. فله مني دعاءٌ لا ينقطع، وذكرى لا تبهت، وامتنانٌ لا يُحدّ.
في ظل الثورة التكنولوجية المتسارعة، يبرز الذكاء الاصطناعي بوصفه أحد أعظم منجزات العصر الحديث، إذ أضحى جزءًا لا يتجزأ من تفاصيل حياتنا اليومية، بدءًا من الهواتف الذكية، ومرورًا بالتشخيص الطبي، ووصولًا إلى المركبات ذاتية القيادة...